الامامة الالهية(5) المجلد 2

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، - 1340

عنوان و نام پديدآور : الامامه الالهيه/ محاضرات محمد سند؛ جمع و اعداد محمدعلي بحرالعلوم

مشخصات نشر : تهران : فرصاد ، - 1385.

مشخصات ظاهري : ج 3

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه

موضوع : امامت

موضوع : ولايت

موضوع : اصول فقه شيعه

شناسه افزوده : بحرالعلوم، محمدعلي، 1345 - مقرر

رده بندي كنگره : BP223/س9الف8 1385

رده بندي ديويي : 297/45

شماره كتابشناسي ملي : م 81-28236

الامامة الالهية (2)

الُمقدّمة … ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه الجاعل في الأرض خليفة إماماً افترض طاعته علي جميع الملائكة والجنّ والإنس وقد علّمه من لدنه علماً جامعاً بالأسماء كلها فاحتاجته الملائكة لعلمه، ولم يقبل تعالي طاعة وعبادة أحد من خلقه إلّابالطاعة لخليفته، ثمّ الصلاة والسلام علي المبعوث للعالمين رحمة إمام الخلق التارك فينا الثقلين الجاعل باب علمه وحكمته وصيه المرتضي والمستخلف علي الأمة اثني عشر وعلي آله المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون وهو آيات بينات في صدورهم الذين قرن اللَّه بطاعته وطاعة رسوله طاعتهم فريضة، وجعل مودّتهم قرين الرسالة وسبيلًا متخذاً إليه.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني والثالث من كتاب الإمامة الإلهية وقد اشتملا علي مباحث متعدّدة من خمسة فصول وقد كان من بواعث الخوض فيها ما يلاحظ في جملة من المقولات من النظرة إلي علم النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليه السلام كملكة علمية بفقه الدين والشريعة وان الأحكام الصادرة عنهم أشبه بالفتاوي النابعة عن أعمال جهد الفهم المكتسب والتتبّع في الكتب والأدلّة. أو أن ما يحكمون به هو وليد الاستظهار من وراء حجاب الألفاظ ودلالاتها، وقد صرّح أهل سنّة جماعة الخلافة باجتهاد النبي صلي الله عليه و آله والعياذ باللَّه تعالي- وانه هل يصيب أم يخطأ،

ولوازم وتوالي هذا القول من الحالقات للدين.

وقد عبرّ في بعض الأقوال عن بيان أئمة أهل البيت عليهم السلام للسنّة النبوّية انهم رواة لها ونقلة، وهو تخيل ان اخبارهم عن النبي صلي الله عليه و آله علي حذو الرواة من سائر الناس، وانهم يخبرون عنها بما يمتلكون من رصيد مسموعات حسّية وكتب مخطوطة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 6

وقد جاءت سلسلة البحث بدءاً بالمنهجية والنظام المتّبع في معرفتهم (صلوات اللَّه عليهم) ثمّ تلا ذلك البحث في فقه مصادر تلك المعرفة بالتعرض للقواعد الأمّ في معرفة مقاماتهم ولم يكن ذلك علي سبيل الاستقصاء كيف ومن حدّهم فقد وصفهم ومن وصفهم بكمالهم فقد أحاط بهم فهو أعلم منهم لان من حدّ شيئاً فهو أكبر منه.

ثمّ البحث عن جملة من أبواب تلك المعرفة وأسسها.

وقد تضمّن في مطاوي تلك السلسلة محاور قد احتدم فيها الجدل العلمي:

كالاستقامة في طريق المعرفة بعيداً عن إفراط الغلوّ وتفريط التقصير إن الايمان فضلًا عن الأعمال لا يصحّ فضلًا عن القبول إلّابالتوجّه والتوسّل والانقياد لهم فضلًا عن معرفتهم- قراءات جديدة ثلاث في حديث الغدير أن ولايتهم عليهم السلام من أصول الدين الواحد الذي بعث به جميع الانبياء عليهم السلام ولايتهم في التشريع- ان الامام هو حقيقة القرآن المكنون وهو الثقل الأكبر أن ليلة القدر نافذة غيبية وقناة ارتباط سماوية لا زالت قائمة مستمرة في عقيدة الإسلام عند المسلمين- أن للقرآن منازل ومواطن غيبية هي منال لهم عليهم السلام الإمامة القائمة الراهنة للمهدي (عج) في ظل الغيبة نماذج الارتباط الغيبي لأمثال الإمامة في القرآن-.

وقد قام بتقرير وضبط هذه المباحث ذو البصيرة المعرفية والنظر النافذ الشيخ صادق الساعدي أدام اللَّه سعيه في نشر العقائد الحقّة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

قم

عش آل محمّد عليهم السلام

بجوار كريمة أهل البيت عليهم السلام

محمد سند

الحادي من ذي القعدة 1426 ه. ق

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 7

مقدّمة المؤلِّف … ص: 7

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسلام علي صفوة الخلق محمّد وآله الهداة المهديين الذين اجتباهم اللَّه وجعلهم صراطه المستقيم وارتضاهم لغيبه واختارهم لسرّه وجعلهم خلفاء في أرضه وحججاً علي بريته.

الإمامة هي ضرورة من الضرورات الفطرية ولهذا تجدها في الوجدان لدي عامة المسلمين وتحت ذريعة الضرورة تسارع جمع من الناس لنصب الخليفة ومنعوا مخالفته أو الخروج عليه بزعم انهم خلفاء وألوا امر الذين أمر اللَّه بطاعتهم كما أمر بطاعته وطاعة رسوله وبهذا الزعم انقادوا لهم واتبعوا الملوك الذين تربّعوا علي العروش باسم الخلافة الإسلامية كملوك بني امية وبني العباس وغيرهم الذين عاثوا بالإسلام فساداً وبالمسلمين قتلًا وتشريداً إلي أن أوصلوا الإسلام والمسلمين إلي ما نراه الآن..

والإمامة هي منصب الولاية في الدين والحاكمية علي المسلمين وهل الإمام هو من استطاع الوصول إلي هذه الزعامة والمنصب بأية طريقة كانت حتي لو كان عن طريق سفك دماء المسلمين وانتهاك حرماتهم بل وحتي لو كان انتهاك لحرمة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهل ضرورة الإمامة مبرر لذلك وهل يعقل أن يلتزم بهذا القول في الإمامة غالبية الأُمّة الإسلامية وفي الحقيقة أنه يترتّب علي الإمامة نتائج خطيرة علي مستوي العقائد وبقية أبواب الدين ومستوي الأحكام الفقهية ولا ابالغ لك في القول كما سيتضح ذلك من خلال المباحث الموجودة في صفحات الكتاب الذي بين يديك.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 8

والمنهج في مدرسة أهل البيت عليهم السلام لأصل الإمامة يختلف اختلافاً جوهرياً عمّا رسمته المدارس الاخري لهذه الحقيقة وكذلك لصفات الإمام.

فالإمامة هي عهد إلهي وجعل ربّاني وتنصيب منه سبحانه وتعالي وهذا صريح

الآيات والروايات قال تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»، وقال تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «2» والإمام له صفات ومقامات خاصة أولها أن يكون معصوماً وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «3» وقوله تعالي: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

والإمامة مستمرّة وباقية لا تنقطع «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ» «4».

وقد جاءت هذه البحوث القيمة التي أفاضها علينا سماحة الأستاذ الشيخ محمد سند (دامت بركاته) لتجلي البصائر عن تلك المقامات للنبي وأهل بيته عليهم السلام وبيان وتأثير تلك المقامات في مسيرة الخلق إلي الحقّ والناس في هذه المسيرة علي درجات ارتفاع وانخفاض بما لديهم من معرفة تلك المقامات.

صادق الساعدي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 9

الفصل الرابع: الغلوّ والتقصير (منهجية المعرفة) … ص: 9

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 11

الفرقتان أوالثلاث المذمومة … ص: 11

ورد في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة ذمّ الغلوّ والتقصير، وكذلك العداوة والضغينة لأصفياء اللَّه وحججه، قال تعالي: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ» «1»

، وقال تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» «2»

، وقال تعالي علي لسان المقصّرة في معرفة أصفياء اللَّه: «قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» «3»

، وقال تعالي علي لسانهم: «مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» «4»

وأيضاً: «مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ» «5»

وأيضاً: «فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَي اللَّهُ» «6»

وأيضاً: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَي إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا» «7».

فيبرز القرآن الكريم أهم العوامل الموجبة لجحود الصراط الإلهي وهو قصور معرفة الأُمم بشخصيات الحجج الإلهية واقتصارهم في المعرفة علي الحيثية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 12

البشرية. وقد أجاب تعالي عن هذا القصور بقوله: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَايُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ» «1»

، أي أنّ أصفياء اللَّه وإن كانت حقائقهم ملكية، إلّاأنّ صورتهم ولباسهم في الخلقة هي الصورة البشرية.

وقال تعالي في ذمّ الفرقة الثالثة المنطوية علي عداوة أصفياء اللَّه: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ» «2».

والضغينة المنهي عنها في القرآن الكريم هي في مقابل المودّة المأمور بها في كتابه العزيز: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «3».

وقال تعالي: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذَا لَايُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا* أَمْ

يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا* فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَي بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا» «4»

، وقال تعالي علي لسانهم: «أَءُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» «5»

، و «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَي رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «6».

أمّا الروايات: فقد روي في زيارته عجّل اللَّه تعالي فرجه الشريف: «الحمد للَّه الذي هدانا لهذا وعرّفنا أولياءه وأعداءه، ووفّقنا لزيارة أئمّتنا ولم يجعلنا من المعاندين الناصبين، ولا من الغلاة المفوّضين، ولا من المرتابين المقصّرين» «7».

وفي الزيارة الجامعة: «فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم حق، والمقصّر في حقّكم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 13

زاهق» «1»

، وكذلك ما ورد في الصلوات الشعبانية: «اللهمّ صلِّ علي محمّد وآل محمّد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدّم لهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق» «2».

وروي الكليني أيضاً في مصحّح محمد بن سنان، قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد، إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجري طاعتهم عليها وفوّض «3» أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤن، ويحرّمون ما يشاؤن ولن يشاؤا إلّاأن يشاء اللَّه تبارك وتعالي. ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد» «4»

.قال المجلسي «5» في شرح الحديث: والديانة الاعتقاد والمتعلّق بأُصول الدين، من تقدّمها أي تجاوزها بالغلوّ، مرق أي

خرج من الإسلام، ومن تخلّف عنها أي قصّر ولم يعتقدها، محِق أي أبطل دينه أو بطل، ومن لزمها واعتقد بها لحق أي بالأئمّة أو أدرك الحقّ، خذها إليك أي احفظ هذه الديانة لنفسك.

وروي المجلسي هذه الرواية عن محمّد بن سنان بطريق آخر مثل ما تقدّم، إلّا أنّ فيه: «وفوّض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرّف والإرشاد والأمر والنهي في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 14

الخلق؛ لأنّهم الولاة، فلهم الأمر والولاية والهداية، فهم أبوابه ونوّابه وحجّابه، يحلّلون ما يشاء ويحرّمون ما شاء، ولا يفعلون إلّاما شاء، عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، فهذه الديانة التي من تقدّمها غرق في بحر الإفراط، ومن نقصّهم عن هذه المراتب التي رتّبهم اللَّه فيها زهق في بر التفريط، ولم يوفِ آل محمّد حقّهم فيما يجب علي المؤمن من معرفتهم. ثمّ قال: خذها يا محمّد «1»؛ فإنّها من مخزون العلم ومكنونه».

وروي المجلسي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية رواية طويلة في فضائل أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام ومقاماتهم ورتبهم، قال عليه السلام: «يا سلمان ويا جندب! قالا: لبيك ياأمير المؤمنين صلوات اللَّه عليك. قال عليه السلام: من آمن بما قلت وصدّق بما بيّنت وفسّرت وشرحت وأوضحت ونوّرت وبرهنت فهو مؤمن ممتحن، امتحن اللَّه قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام، وهو عارف مستبصر قد انتهي وبلغ وكمل، ومن شكّ وعَنَدَ وجَحَدَ ووقف وتحيّر وارتاب فهو مقصّر وناصب» «2»

.وفي صدر الرواية قال صلوات اللَّه عليه مخاطباً إيّاهما: «مرحباً بكما من وليّين متعاهدين، لستما بمقصّرين إلي أن قال عليه السلام: - إنّه لا يستكمل أحد الإيمان حتّي يعرفني كنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللَّه قلبه بالإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفاً

مستبصراً، ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاكّ ومرتاب» «3»

.وروي الشيخ الطوسي في الغيبة بطريقين»

، عن أبي نعيم محمد بن أحمد الأنصاري، قال: «وجّه قوم من المقصرة والمفوضة كامل بن إبراهيم المدني إلي أبي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 15

محمّد عليه السلام، قال كامل: فقلت في نفسي أسأله لا يدخل الجنّة إلّامن عرف معرفتي وقال بمقالتي. ثمّ سرد الرواية وفيها لقياه بالإمام العسكري وتشرّفه بلقيا الحجّة (عج) معه، ثمّ قال (عج): وجئت تسأله عن مقالة المفوضة؟ كذّبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة اللَّه، فإذا شاء شئنا، واللَّه يقول: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» «1»

.. الحديث».

وفي زيارة عاشوراء المعروفة، قال عليه السلام تعليماً للزائر: «ولعن اللَّه أمةً دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم اللَّه فيها» «2»

.وروي الصفّار بسنده عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يا أبا حمزة لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه اللَّه، ولا ترفعوه فوق ما رفعه اللَّه، كفي لعليّ أن يقاتل أهل الكرّة وأن يزوّج أهل الجنّة»، وكذا رواه الصدوق في الأمالي «3».

وروي الشيخ في الأمالي عن الأصبغ بن نباتة قال: «دخل الحارث الهمداني علي أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لأمير المؤمنين عليه السلام: وزادني إواراً وغليلًا اختصام أصحابك ببابك. قال: وفيم خصومتهم؟ قال: في شأنك والبلية من قبلك، فمن مفرطٍ غالٍ ومقتصدٍ قالٍ ومتردّدٍ مرتاب لا يدري أيقدم أو يحجم. قال: فحسبك يا أخا همدان، ألا أنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي.. الحديث» «4»

.وروي السيّد شرف الدين في تأويل الآيات، بسنده عن الصادق عليه السلام قال: «قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام.. وإنّه ليس عبدٌ من عبيد اللَّه يُقصّر في حبّنا لخير جعله

اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 16

عنده» «1».

وروي ابن شهرآشوب في المناقب عن الحسن بن عليّ عليهما السلام أنّه خطب الناس فحمد اللَّه وأثني عليه وتشهّد ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّ اللَّه اختارنا لنفسه وارتضانا لدينه واصطفانا علي خلقه وأنزل علينا كتابه ووحيه، وأيم اللَّه لا ينقصنا أحدٌ من حقّنا شي ء إلّاانتقصه اللَّه في عاجل دنياه وآجل آخرته» «2»

. وهو يشير عليه السلام إلي انتقاصهم من مقاماتهم التي ذكرها عليه السلام.

وروي الكليني في الموثق عن عبدالخالق الصيقل، قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ: «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» «3»

؟ فقال: لقد سألتني عن شي ء ما سألني أحد إلّامن شاء اللَّه. قال: من أمّ هذا البيت وهو يعلم أنّه البيت الذي أمر اللَّه عزّوجلّ به وعَرِفَنا أهل البيت حقّ معرفتنا كان آمناً في الدنيا والآخرة» «4»

. ومفهوم قوله عليه السلام: إنّ المقصّر في معرفتهم لا يكون آمناً في الآخرة.

روي الكليني في الكافي عن ضريس الكناسي، قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول وعنده أُناس من أصحابه-: عجبت من قومٍ يتولّونا ويجعلونا أئمّة ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقّنا ويعيبون ذلك علي من أعطاه اللَّه برهان حقّ معرفتناوالتسليم لأمرنا! أترون أنّ اللَّه تبارك وتعالي افترض طاعة أوليائه علي عباده، ثمّ يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض …» «5»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 17

جدلية الغلوّ والتقصير في قول بعض أعلام الطائفة … ص: 17

وسيأتي جملة عديدة من أقوال علماء الطائفة في أبواب الفصول اللاحقة حول التفويض، إلّاأنّا سنشير إلي نبذة وجملة نافعة، منها ما قاله الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق عند قوله: اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة، وإنّ علامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم

نسبتهم المشايخ والعلماء إلي القول بالتقصير … قال:

والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين وذرّيته إلي الإلوهية والنبوّة إلي أن قال وأمّا نصّه رحمه الله أي الصدوق بالغلوّ علي من نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم إلي التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلي التقصير علامة علي غلوّ الناس؛ إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً، وإنّما يجب الحكم بالغلوّ علي من نسب المحقّين إلي التقصير، سواء كانوا من أهل قمّ أم من غيرها من البلاد وسائر الناس.

وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد لم نجد لها دافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنّه قال: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ صلي الله عليه و آله والإمام عليه السلام، فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر، مع أنّه من علماء القمّيين ومشيختهم.

وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمّة عليهم السلام عن مراتبهم، ويزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 18

الأحكام الدينية حتّي ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول إنّهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلي الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه، ويكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الأئمّة عليهم السلام سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهية والقدم … ولا يحتاج مع ذلك إلي الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر رحمه الله سمة للغلوّ علي كلّ حال «1».

وعلّق المجلسي علي قولَي الصدوق والمفيد بقوله: ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم السلام وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم،

فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتّي قال بعضهم: من الغلوّ نفي السهو عنهم، أو القول بأنّهم يعلمون بما كان وما يكون، وغير ذلك، مع أنّه قد ورد في أخبار كثيرة «لا تقولوا فينا ربّاً، وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا» «2»

.وورد: «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّاملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللَّه قلبه للإيمان».

وورد: «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله»، وغير ذلك ممّا مرّ وسيأتي.

فلابدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلّاإذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة، كما في باب التسليم وغيره. «3»

وفي صحيحة زرارة قال: «دخلت علي أبي جعفر عليه السلام فسألني ما عندك من أحاديث الشيعة؟ قلت: إنّ عندي منها شيئاً كثيراً قد هممت أن أوقد لها ناراً ثمّ أحرقها. قال: ولِمَ؟

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 19

هات ما أنكرت منها. فخطر علي بالي الأُمور. فقال لي: ما كان علم الملائكة حيث قالت:

أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك …» «1»

.وقال المجلسي في شرح معني الحديث: لعلّ زرارة كان ينكر أحاديث من فضائلهم لا يحتملها عقله، فنبّهه عليه السلام بقصّة الملائكة وإنكارهم فضل آدم عليهم وعدم بلوغهم إلي معرفة فضله، علي أنّ نفي هذه الأُمور من قلّة المعرفة، ولا ينبغي أن يكذب المرء بما لم يحط به علمه، بل لا بدّ أن يكون في مقام التسليم، فمع قصور الملائكة مع علوّ شأنهم- عن معرفة آدم لا يبعد عجزك عن معرفة الأئمّة عليهم السلام «2».

وقال الوحيد البهبهاني «3» في فوائده: إعلم أنّ الظاهر أنّ كثيراً من القدماء سيما القمّيين

منهم والغضائري، كانوا يعتقدون للأئمّة عليهم السلام منزله خاصّة من الرفعة والجلالة، ومرتبة معينة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها، وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً علي حسب معتقدهم، حتّي أنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً، بل ربما جعلوا مطلق التفويض إليهم، أو التفويض الذي اختُلف فيه كما سنذكر- أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص وإظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به، سيما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين.

وبالجملة، الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأُصولية أيضاً، فربما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 20

كان شي ء عند بعضهم فاسداً أو كفراً أو غلوّاً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً، أو غير ذلك، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده، أو لا هذا ولا ذاك.

وقال صاحب تنقيح المقال «1» ما ملخّصه: وإنّ أكثر ما يُعدّ اليوم من ضروريات المذهب في أوصاف الأئمّة عليهم السلام كان القول به معدوداً في العهد السابق من الغلوّ؛ وذلك أنّ الأئمّة عليهم السلام حذّروا شيعتهم من القول في حقّهم بجملة من مراتبهم؛ إبعاداً لهم عمّا هو غلوّ حقيقة، فهم منعوا الشيعة من القول بجملة من شؤونهم حفظاً لشؤون اللَّه جلّت عظمته، حيث كان أهمّ من حفظ شؤونهم؛ لأنّه الأصل وشؤونهم فرع شأنه، نشأت من قربهم لديه ومنزلتهم عنده، وهذا هو الجامع بين الأخبار الثمينة من الشؤون لهم والنافية لها.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 21

لا غلوّ ولا تقصير بل معرفة بحقّهم … ص: 21

والملاحظ ممّا تقدّم التوصية القرآنية عن الوقوع في كلّ من جانبي زيغ الغلوّ وزيغ التقصير، وكذلك لسان الروايات المتضمّن لاصطلاح الغلوّ

والغلاة والتقصير والمقصّرة، هو تخطئة كلا المنهجين والأمر بمنهج آخر يعتمد فيه نفي الغلوّ الذي هو إفراط ونفي التقصير الذي هو تفريط، وأنّ هذا النهج الوسط من الدقّة بمكانة يصعب المحافظة علي تجنّب الوقوع في الطرفين.

ومن ثمّ يُلاحظ رسوخ هذا الاصطلاح في ذهنية علماء الطائفة الأقدمين والمتقدّمين والمتأخّرين، وتشدّدهم علي توخّي نهج المعرفة والعارف بالأئمّة عليهم السلام، وهو النهج الوسط، ومحاذرة الوقوع في طرفي الغلوّ والتقصير، فلا غلوّ ولا تقصير بل معرفة عارف بحقّهم عليهم السلام. وهذا ميزان أطّره لنا الكتاب والسنّة المطهرة، نظير لا تعطيل ولا تشبيه بل توصيف بما وصف به نفسه وهو التوحيد، نظير لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.

كما يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الغلوّ ذو درجات، وكذلك التقصير شدةً وضعفاً، وأنّ محذور التقصير لا سيّما في بعض مراتبه- ليس هو بأدون من محذور الغلوّ، وأنّ النجاة في سلوك نهج التعرّف وكسب المعرفة بكيفية مقاماتهم ومراتبهم والتسليم الإجمالي أثناء ذلك السلوك.

هذا وقد وقف أئمّة أهل البيت عليهم السلام قبالة ظاهرة التقصير في معرفة الأئمّة عليهم السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 22

نظير وقوفهم أمام ظاهرة الغلاة، حتّي فشي وانتشر عند أصحاب الأئمّة عليهم السلام أنّ التقصير والغلوّ والتفويض في الزيغ عن جادة سواء الحقّ، وهذا المعيار تلقّاه شيعتهم بتعليم منهم عليهم السلام، وقد ورد مكرّراً تأكيدهم علي زيارة قبورهم بحال كون الزائر عارفاً بحقّ الإمام حقّ معرفته، أو عارفاً بحقّه، وإنّ أدني حقّ معرفة الإمام كونه منصوباً منتجباً من قبله تعالي لهداية الخلق.

ومحذور التقصير كونه يؤدّي بصاحبه إلي الإنكار والجحود، وبالتالي إلي نقص الإيمان أو المروق منه، ومن ثمّ قد ورد مستفيضاً «1» أو متواتراً الحثّ علي التسليم، وأنّها من صفات الإيمان

الكبري، بل في بعضها أنّها من أعظم صفات الإيمان ولوازمه، وإليه تشير الآية الكريمة: «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» «2»

، كما قد أُطلق عليه في الروايات الإخبات، كما في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَي رَبِّهِمْ» «3»

.ومن هذا الباب أيضاً ما ورد من حرمة الردّ للأحاديث المرويّة وإن كانت ضعيفة السند، وهذا الحكم وإن لم يكن بمعني حجّية واعتبار الروايات الضعيفة، إلّا أنّه يعني فيما يعنيه وجوب التسليم الإجمالي لما صدر عنهم عليهم السلام فضلًا عمّا يتولّد من الأخبار الضعيفة نتيجة تراكم حساب الاحتمالات من تولّد المستفيض والمتواتر أو الموثوق بصدوره.

وهذا الحكم قد اتّفق عليه علماء الإمامية الأصوليون منهم والأخباريون، فاللازم في الخبر الضعيف ردّ علمه إليهم والتسليم إجمالًا بالواقع وحقائق الدين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 23

وإن لم نعلمها تفصيلًا، ولا يسوغ الردّ والإنكار ولا المبادرة بالنفي والإنكار.

وهذا المفاد ممّا قرّره الحكماء بقولهم: كلّما قرع سمعك ممّا لم يزدك واضح البرهان فذره في بقعة الإمكان، ويشيرون بذلك إلي هذا المنهج المنطقي الفطري من أنّ الإثبات كما يحتاج إلي دليل كذلك النفي والإنكار يحتاج إلي دليل.

ولك أن تقول: إنّ الفحص والتنقيب عن الأدلّة في الشبهات الحكمية من الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان لازماً وكان إجراء الأُصول النافية للتكليف قبل الفحص التامّ البالغ في أبواب الأدلّة غير سائغٍ، فكيف يسوغ في المعارف العقائدية حول شؤونهم ومقاماتهم ومراتبهم المبادرة إلي النفي والإنكار من دون فحص تامّ ومن دون تضلّع وممارسة علمية ممتدّة، لا سيّما وأنّ أبواب الأدلّة في المعارف هي أضعاف مضاعفة علي عدد وكم أبواب أدلّة الفروع، وكذلك الحال في آيات القرآن في

المعرفة هي أضعاف آيات الأحكام الفرعية التي عددها خمسمائة ونيف، وهو أقل من عشر آيات القرآن!

ويكفي للمتتبّع أن يُلاحظ المجاميع الروائية ككتب الصدوق، فإنّ أغلب أسمائها هي في أبواب وفصول المعارف، وكذلك بقية المحدّثين وأصحاب الجوامع الروائية من متأخّري الأعصار كصاحب البحار، حيث قد وضع لروايات الفروع عشر مجلّدات (الطبعة الحديثة) بينما الغالب في بقية المجلّدات بحوث المعارف، فإذا كانت أدلّة المعارف بهذه السعة والترامي فضلًا عن أهمّية وخطورة أحكام المعارف التي هي مدلول تلك الأدلّة، فكيف يتهاون في الفحص والتنقيب والممارسة العلمية الطويلة؟ وكيف يتسنّي الفحص في كلّ تلك الأبواب في وقت قصير فضلًا عن البحث في الدلالة ومعالجة العامّ والخاصّ والحاكم والمفسّر، وتأليف القرائن العديدة، والتمعّن في الدلالات الالتزامية، وتبويب الأدلّة في طوائف؟

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 24

كيف يتمّ ذلك في برهة قصيرة فلا يسوغ المبادرة بالإجابة بنفي ثبوت الأمر الفلاني أو الكذائي أو زعم أنّه لم يقم دليل عليه، ونحو ذلك من التعابير التي تطلق مع عدم استنفاذ الفحص وعدم المراس والاضطلاع والخبرة المعرفية في تلك الأبواب، ومع عدم الإحاطة بأقوال علماء الإمامية من المتكلّمين والمحدّثين والمفسّرين علي اختلاف مبانيهم ومشاربهم، والإحاطة بشتّي الوجوه المذكورة، وربط المسائل بعضها ببعض، فالحريّ والعزيمة في مثل ذلك هو التوقّف قبل استتمام الفحص كما هو ديدن فتاوي وأجوبة الشيخ المفيد في المسائل العقائدية في الموارد التي لم يكمل تمحيصاً ولم يستنفذ الوسع في الفحص والتنقيب عنها، بمثل قوله لم أقف علي الروايات في ذلك، أو المسائلة بعد محتاجه إلي التأمّل، ونحو ذلك من التعابير.

وهذا منهج السالك المتعلّم من علومهم عليهم السلام علي سبيل النجاة، وأمّا المبادرة بالنفي والإنكار فهو طابع منهج التقصير والمقصّرة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 25

إلفات إلي قاعدة في الغلو … ص: 25

اشارة

قال تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» «1»

الآية، وقال تعالي: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ» «2»

.ذُكر في تفسير هاتين الآيتين أنّ الغلوّ هو التجاوز عن الحدّ والزيادة والإفراط، وغير الحقّ الباطل وادّعاء أنّه ما أنزل اللَّه. في المعجم الوسيط: (غلا السعر وغيره غلواً وغلاءً، زاد وارتفع وجاوز الحدّ فهو غالي وغلي … فلان في الأمر والدين تشدّد فيه وجاوز الحدّ وأفرط) «3».

وظاهر الآيتين يشير إلي ضابطة وقيد مقوّم لمعني الغلوّ، وهو أنّ الغلوّ تجاوز الحدّ في الشي ء والإفراط فيه بغير الحدّ الذي له في الدين، وبالتالي وضعه في غير محلّه الذي وضعه له الدين، أي التجاوز برتبته الرتيبة التي جعلها الدين لذلك الشي ء، ومن ثم وضعه في غير حقّ موضعه الذي حدّد في الدين، وإلي ذلك تشير الآية الثانية.

كما يلزم من الغلوّ القول علي اللَّه بغير الحقّ؛ لأنّ التديّن والديانة بالإفراط في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 26

الشي ء ينطوي علي نسبة ذلك إلي دين اللَّه تعالي وتشريعه، وبالتالي الافتراء علي اللَّه عزّوجلّ، وإلي هذا المعني تشير الآية الثانية.

ويتحصّل من ذلك: أنّ للغلوّ معنيً عامّ وهو التجاوز بالشي ء والإفراط في رتبته زيادةً علي الرتبة التي حدّدها الشارع لذلك الشي ء. ولهذا المعني العامّ موارد ومصاديق لا تحصي؛ إذ لا يقتصر الغلوّ علي التأليه وهو ما ارتكبته النصاري في النبيّ عيسي عليه السلام بل يعمّ الإفراط والتجاوز في كلّ شي ء زاد عن حدّه المرسوم في دين اللَّه، فلو اعتُقد في الإمام أنّه نبيّ لكان ذلك من الغلوّ وكذا لو اعتُقد في النبيّ غير المرسل أنّه

رسول لكان من الغلوّ أيضاً، وهكذا لو اعتُقد في صحابة النبيّ صلي الله عليه و آله بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو اعتُقد في علماء الأُمّة وفقهائها أو في بعض العارفين السالكين أو في بعض الحكماء والفلاسفة بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو اعتُقد في بعض أركان فروع الدين أنّه برتبة تفوق بعض اصول الدين الاعتقادية كان من الغلوّ أيضاً …

وبالجملة، فوضع أيّ شي ء في رتبة زائدة عن الرتبة التي حدّدها الدين لذلك الشي ء فهو من الغلوّ، ولا يقتصر ذلك علي التأليه، كما لا يقتصر شكل الغلوّ ونموذجه علي التصريح بالإفراط في رتبته، الشي ء بل قد يتّخذ أشكالًا وأنماطاً متعددة ترجع في جوهرها إلي الافراط في الحدّ والرتبة، وذلك مثل ترتيب أحكام وآثار علي ذلك الشي ء تتجاوز برتبتها عن رتبة الشي ء، مثل أن نجعل قول الصحابي في قبال قول النبي صلي الله عليه و آله.

ومن الغريب زعم أهل سنّة الخلافة غلوّ الشيعة في أئّمتهم مع أنّهم لا يقولون فيهم أجاز إلّاما أجاز لهم القرآن في ذلك والنصوص النبوية بفقه غور تلك المعاني، ولم يتعدّوا في مقامات الأئّمة عليهم السلام إلّاما هو دون مقام سيّد الأنبياء عليهم السلام:

(مسلمين للَّه مطيعين لأمر رسوله).

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 27

بينما تري أنّ أهل سنّة الخلافة يقرّون ويصحّحون للصحابي- كالخليفة الثاني- مواقف يعترض فيها علي النبيّ صلي الله عليه و آله، وأنّه ينزل الوحي بتصويب الثاني وتخطأة النبيّ صلي الله عليه و آله، في حكايات اختلقوها بأسباب النزول مشحونة بالتناقض والتهافت.

أو يروون بأنّ الثاني كانت غيرته علي الدين والعياذ باللَّه- أكثر من النبيّ، وأنّه أشدّ نكيراً للباطل منه صلي الله عليه و آله.

ومع أنّهم ينفون وينكرون دعوي العصمة في الصحابي

حسب زعمهم- ومع ذلك تراهم يفرطون ويغلون فيه إلي ما فوق عصمة النبيّ صلي الله عليه و آله، فمن جانب قد وقعوا في الغلوّ في شأن بعض الصحابة، ومن جانب آخر وقعوا في التقصير في شأن مقام النبيّ صلي الله عليه و آله وعصمته التي قال تعالي: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» «1»

. وإنّ اجتهاد الصحابي علي حدّ حكم النبي صلي الله عليه و آله بزعم أنّه اجتهاد منه صلي الله عليه و آله، وكذلك جعل قول الحكيم والفيلسوف والعالم في قبال قول المعصوم!

هذا وقد ورد عن الأئمّة الأطهار أقوال تحثّ شيعتهم علي تنزيههم عن الربوبيّة: «نزّلونا عن الربوبية» و «قولوا فينا إنّا عبيد مخلوقون» و «لا تزعموا أنّا أنبياء وقولوا فينا ما شئتم»، أي في بيان الحدّ الذي هو دون الخالقية، أي حدّ المخلوق المكرّم عند اللَّه، «ولن تبلغوا كنه معرفتنا»، أي رتبة الإكرام والحظوة والزلفي التي لهم عند اللَّه «2»، وفي هذه القاعدة توصية بعدم الغلوّ فيهم، كما أنّ ذيلها متضمّن للتوصية بعدم التقصير بمعرفتهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 28

ملازمة بين الغلوّ والتقصير: … ص: 28

وبعد ما تبيّن أنّ للغلوّ أصنافاً وأقساماً عديدة، يجدر الإلفات إلي أنّ بعض أقسام الغلوّ هي ملازمةٌ إلي أنماطٍ من التقصير، بل التدقيق يرشد إلي تلازم كلّ أنواع الغلوّ لنمط من أنماط التقصير، فمثلًا التأليه للبشر المخلوق من نبيّ أو إمام- هو في الواقع تقصير في معرفة الباري؛ للزومه الشرك ونحوه، وكذلك البناء علي العصمة في الصحابي رافقه الخدشة في عصمة النبيّ صلي الله عليه و آله.

وبكلمة جامعة: إنّ الغلوّ كما هو وضع الشي ء زيادة علي رتبته، فهو يستلزم سلب الشي ء الآخر رتبتَه، وإعطائها للطرف

الأوّل الذي حصل فيه الغلوّ، وهذا من ميزات باب الغلوّ والتقصير، أنّهما متلازمان من جهتين، وإن كانا متقابلين في الجهة الواحدة، فلا يظنّ أنّ الخلاص من الغلوّ هو بالتقصير، بل التقصير هو وقوع في الغلوّ من نمط آخر من حيث لا يشعر المقصّر.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله.

فقيل: كيف ذلك يابن رسول اللَّه؟ قال: لأنّ الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، فلا يقدر علي ترك عادته وعلي الرجوع إلي طاعة اللَّه عزّوجلّ أبداً، وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع» «1».

أسباب التقصير: … ص: 28

إنّ أسباب التقصير عديدة كما هو الحال في أسباب الغلوّ فبعضها ناجمة عن قصور علمي، وكلّ مورد بحسب العلم الذي يتكفّله أو إلي عوامل نفسانية ذاتية، وبعضها عن تقصير.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 29

وقد تقدّم أنّ القصور حالة بشرية ملازمة لغير المعصوم مهما بلغ سعيه العلمي والعملي، إلّاأنّ المحذور هو في إنكار ما وراء الحدّ الذي بلغه الشخص، بخلاف ما إذا كان مسلّماً بما لا يحيط بمعرفته التفصيلية «1».

نعم، هناك من الدواعي العمدية للتقصير قد ارتكبتها طوائف من هذه الأُمّة لمنازعة الحقّ أهله ومدافعة الأئمّة المعصومين المطهّرين، تارةً في المقامات التكوينية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها الملكوتي، وأُخري في الحاكمية والإمامة السياسية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها الملكي لتدبير النظام الاجتماعي.

وممّن وقع في ورطة النموذج الأوّل: جملة غفيرة من الصوفية والعرفاء، حيث قالوا: بأنّ القطب في كلّ زمن من الكمّلين، وهو لا يقتصر علي أشخاص بأعيانهم محدودين، بل هو مقام نوعي، وهو الغوث والإمامة النوعية.

وممّن وقع في النموذج الثاني: فقهاء أهل سنّة الجماعة، حيث بنوا علي عدم لزوم العصمة في الحاكم، وأنّ دور العلم الكسبي يكفي

في إدارة الأُمور العامّة.

ومن ثمّ تري أصحاب النموذجين ينالون من مقامات أئمّة أهل البيت وقيعة؛ بداعي فسح المجال لتسنّم مراتبهم.

ويشير إلي هذه الظاهرة في دواعي التقصير، وإلي النموذج الأوّل ما قاله علي بن الحسين عليه السلام، قال: «انتحلت طوائف من هذه الأُمّة بعد مفارقتها أئمّة الدين والشجرة النبوية إخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية، وتعالَوا في العلوم، ووصفوا الإيمان بأحسن صفاتهم، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتّي إذا طال عليهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 30

الأمد وبعدت عليهم الشقَّة وامتحنوا بمحن الصادقين، رجعوا علي أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدي وعلم النجاة، يتفسّخون تحت أعباء الديانة تفسّخ حاشية الإبل تحت أوراق البزل.

ولا تحرز السيف الروايا وإن جرت ولا يبلغ الغايات إلّاسيوفها

وذهب آخرون إلي التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن فتأوّلوا بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا «1»، يقتحمون في أغمار الشبهات ودياجير الظلمات بغير قبس نور من الكتاب ولا أثرة علم من مظان العلم بتحذير مثبطين، زعموا أنّهم علي الرشد من غيِّهم.

وإلي من يفزع خَلَف هذه الأُمّة وقد درست أعلام الملّة ودانت الأُمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً، واللَّه تعالي يقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ» «2»

؟ فمن الموثوق به علي إبلاغ الحجّة وتأويل الحكمة إلّاأهل الكتاب وأبناء أئمّة الهدي ومصابيح الدجي، الذين احتجّ اللَّه بهم علي عباده، ولم يدع الخلق سدي من غير حجّة؟ هل تعرفونهم أو تجدونهم إلّامن فروع الشجر المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب!

هم العروة الوثقي وهم معدن التقي وخير جبال العالمين وينعها» «3»

.بيّن عليه السلام أنّ هنالك نموذج من هذه الأُمّة ممّن ينازع الحقّ أهله- وهم أئمّة العترة-

في بعد كمالاتهم الملكوتية، فهو ينسب نفسه إلي إخلاص الديانة، أي إلي درجة المخلَصين والفتح وتزيّوا بالرسوم الظاهرية من الرهبانية والزهد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 31

والانقطاع عن الدنيا، ونسبوا لأنفسهم مراتب من العلوم وأجهدوا أنفسهم في تحصيلها، وتبجّحوا في وصف الإسلام تعريضاً بالمديح لأنفسهم أنّهم يتحلّون بتمام درجات الإسلام، إلّاأنّهم لم يتمكّنوا لطبيعة شأنهم- في الاستقامة علي هذا المنوال؛ لاحتياجه إلي إعداد رباني للذات الإنسانية، وهو الاصطفاء والانتجاب، وهم لم يُصطَفوا لذلك فلم يقدروا علي مواصلة الطريق وتبيّن حال تقمّصهم لهذا المقام، وهو مقام الإمامة الملكوتية التي تنطوي علي مقام العلم اللدني بمنبع غيبي، وعلي كمال روحي يكون فيه الشخص مخلَصاً بالفتح- وعلي اتّصاف النفس بتمام الكمالات الروحية.

وهذا الغلوّ الذي ادّعاه هؤلاء لأنفسهم استلزم التقصير في من له حقّ تلك الرتبة، وهم الأئمّة من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله، كما مرّ بنا: كلّ غلوّ يستتبع تقصير من جهة أُخري، وإنّ كلّ تقصير يستتبع غلوّ من جهة أُخري، وقد وقع في شراك هذا النموذج من الغلوّ والتقصير أكثر الصوفية وكثير من العرفاء، حيث قالوا: بأنّ القطب والغوث في كلّ زمان شخص، ويتبدّل من زمان إلي آخر، ولا ينحصر في عدد محدود، وإنّ الولاية الإلهية لنوع الواصلين، وبالتالي فالعصمة الذاتية تتعدّي وتتحقّق لكلّ سالك للقرب الإلهي، فباب الوصول الكامل مفتوح للكلّ.

وقال تعالي: «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» «1»

.وفي هذه الواقعة التي سردها لنا القرآن الكريم تنبيه علي منهجية وضابطة في طبيعة الإنسان بل وكلّ موجود

مدرك- أنّ الأُمور التي يصعب عليه معرفتها

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 32

بالتفصيل وتبهم لديه وتجمل حقيقتها عن أفق إدراكه، تحصل لديه النفرة والجموح عن الإذعان بها، فيبادر إلي الإذعان بنفيها، وكأنّه توصّل إلي أنّ نفيها هو الحقّ، مع أنّ فرض الحال أنّ الأمر مبهم ومجمل عليه، وأنّ إبائه ونفرته منه هو لأجل ذلك، لكن يحصل لديه الخلط بين ذلك وبين أن يحسبه أنّه من قبيل ما يعلم ببطلانه وبعدمه في الواقع، وهذا الخلط في كيفية الاستنتاج يربك علي الإنسان طريقة الاستنتاج الصحيحة؛ فإنّ المطلوب منطقياً ومنهجياً في الحالة الأُولي هو التوقّف عن النفي أو الإثبات وعن الإنكار أو القبول تفصيلًا، والقيام بعملية الفحص العلمي، لا المبادرة باستنتاج النفي ومن ثمّ الإنكار والجحود.

وهذا المنهج جاري في كلّ مسألة صعبة ومعقّدة في أي علم من العلوم، كعلم الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وغيرها من العلوم التجريبية أو العلوم الإنسانية أو علوم المعارف الإلهية، كما قد يحصل خلط لدي الإنسان بين حالة الفحص والبحث والتنقيب وحالة التشكيك؛ فإنّ حالة التشكيك في ظاهر صورتها أنّها عملية تسائل وتنقيب، إلّاأنّ في طياتها استنتاج عجول للنفي ومبادرة سريعة للإنكار غير مبنية علي أُسس الفحص العلمي، والتمييز بين الحالتين غامضة تدقُّ علي أفهام عامّة البشر.

ويذكر القرآن الكريم لنا مثالًا آخر في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَاتَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ

أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 33

تَكْتُمُونَ»»

. ففي المثال يضرب تعالي عبرة لنا بالملائكة مع قدسيتهم ومكانتهم، إلّاأنّه لاحتجابهم عن علم الغيب الإلهي بدر منهم استنكار ما جهلوه ومسارعة إلي التنديد به مع كونه الحقّ.

ويشير إلي النموذج الثاني الإمام أبو عبداللَّه عليه السلام في قوله: «إنّما مثل علي عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلي الله عليه و آله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «2»

، ثمّ قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

، وقد كان عند العالِم علم لم يُكتب لموسي في الألواح، وكان موسي يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه.

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه، ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلي الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 34

ولذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه

بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أُولي الأمر منهم، لَعلِمهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد عليهم السلام، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالِم، وموسي نبيّ اللَّه يُوحي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ولم يحسد كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما عَلِمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رَغب موسي عليه السلام إلي العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِمَ ذلك عَلِم العالِمُ أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمَه ولا يصبر معه، فعند ذلك قال العالِم: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1»

، فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2».

وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لا يصبر علي علمه، فكذلك- واللَّه يا إسحاق بن عمّار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون واللَّه- علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالِم حين صحبه ورأي ما رأي من علمه، وكان ذلك عند موسي عليه السلام مكروهاً، وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخَذ وهو عند اللَّه الحقّ» «3»

.وفي هذه

الرواية العديد من الوجوه علي ضرورة موقعية الإمام في القيمومة علي الشريعة، وسيأتي بيانها مفصّلًا، إلّاأنّنا نقتصر في المقام علي نبذة مجملة منها، وهي أنّ النبيّ موسي عليه السلام مع كونه نبيّاً مرسلًا من أولي العزم يتنزل عليه الوحي، أي إنّه محيط بالأحكام الشرعية وتشريعات اللَّه علي ما هي عليه في الواقع، أي بالأحكام الواقعية، إلّاأنّ ذلك لم يغنه عن العلم اللدني الذي أعطاه اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 35

للخضر، وهو الشريعة في نظامها الكوني والإرادات الإلهية التكوينية. وهذا العلم اللدني غير النبوّة، وهو حقيقة الإمامة، والذي كان مجتمعاً بشكله الأكمل والأتمّ في خاتم النبيين صلي الله عليه و آله، فلا تُغني الإحاطة بالأحكام الواقعية لكلّ تفاصيل ظاهر الشريعة عن شريعة الإرادات الإلهية الكونية وتأويلها، فضلًا عن إحاطة الفقهاء القاصرة عن الإلمام بكلّ الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة.

بل الفقهاء كما ذكر المحقّق النائيني في بحث الإجزاء- لا يحيطون بجميع الأحكام الظاهرية التي دورها إحراز الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة؛ فإنّ جملة من الأحكام التي يستنبطها هي أحكام تخيّلية التي ينكشف له عدم كون استنباطها علي الموازين من الأدلّة.

وبعبارة أُخري: إنّ الفارق بين علم النبيّ موسي وعلم الفقهاء، إنّ علم النبيّ موسي ليس منبعه نقلي، بل هو منبع وحياني، بينما منبع علم الفقهاء ليس إلّا ظنون معتبرة، فضلًا عمّا لو كانت ظنون تخيّلية يتوهّم أنّها معتبرة، ومع كلّ ذلك فلم يُغن علم النبيّ موسي وهو صاحب الشريعة- عن علم التأويل الذي زوّده اللَّه تعالي للخضر لدنيّا، فكيف يفرض إستغناء الفقهاء في أحكام الشريعة عن دوام الرجوع إلي المعصوم؟

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 36

قاعدة آلية لنفي الغلوّ والتقصير … ص: 36

وهي ما روي عنهم مستفيضاً من قاعدة: «نزّلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا». فأمّا

الروايات الواردة في ذلك فهي:

الأُولي: ما رواه الصدوق في الخصال من حديث الأربعمائة المعروف، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم». «1»

الثانية: ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات، عن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام في حديث: ياإسماعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، إجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا» «2»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 37

الثالثة: ما رواه الصفّار بسنده عن كامل التمّار، قال: «كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام ذات يوم فقال لي: ياكامل، اجعل لنا ربّاً نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم قال: قلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوي جالساً ثمّ قال: وعسي أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلّاألف غير معطوفة.

والمراد من الألف غير المعطوفة كناية عن نهاية القلّة» «1»

.الرابعة: روي في كشف الغمّة من كتاب الدلائل للحميري عن مالك الجهني، قال: «كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلي أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشي ء؛ إذا نحن بأبي عبد اللَّه عليه السلام واقف علي حمار، فلم ندرِ من أين جاء، فقال:

يامالك وياخالد، متي أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلّاالساعة.

فقال: إعلما، أنّ لنا ربّاً يكلأنا بالليل والنهار نعبده، يامالك وياخالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقف علي حماره» «2»

.الخامسة: وروي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية (أي إنّ مبدأ خلقهم هو خلق أنوارهم)، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «يا سلمان ويا جندب. قالا: لبيك صلوات اللَّه

عليك. قال عليه السلام: أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضي وممّن بقي، وايّدتُ بروح العظمة، وإنّم أنا عبدٌ من عبيد اللَّه، لا تسمّونا أرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنه ما جعله اللَّه لنا، ولا معشار العشر» «3»

.السادسة: ما رواه الراوندي في خرائجه عن خالد بن نجيع، قال: «دخلت علي أبي عبداللَّه عليه السلام وعنده خلق، فجلست ناحية وقلت في نفسي: ما أغفلهم، عند من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 38

يتكلّمون! فناداني: إنّا واللَّه عبادٌ مخلوقون، لي ربّ أعبده؛ إن لم أعبده عذّبني بالنار.

قلت: لا أقول فيك إلّاقولك في نفسك.

قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا فينا ما شئتم إلّاالنبوّة» «1»

.ورواه في بصائر الدرجات بطريقين.

السابعة: ما رواه في التفسير المنسوب إلي الإمام العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولا تغلوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصاري؛ فإنّي بري من الغالين» «2»

.ورواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام: «قال الرضا عليه السلام: من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام حدّ العبودية فهو من المغضوب عليهم والضالين.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصاري؛ فإنّي بري من الغالين …

إلي أن قال بعد شرح غلوّ النصاري: فكذلك هؤلاء، وجدوا أمير المؤمنين عبداً أكرمه اللَّه ليبيّن فضله ويقيم حجّته، فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليّاً له عبداً، وأكبروا عليّاً عن أن يكون اللَّه عزّوجلّ له ربّاً، فسمّوه بغير اسمه، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته، وقالوا لهم: يا هؤلاء! إنّ عليّاً وولده عبادٌ مكرمون مخلوقون مدبرون، لا يقدرون إلّاعلي ما

أقدرهم عليه اللَّه ربّ العالمين، ولا يملكون إلّاما ملكهم» «3»

.الثامنة: ما في غرر الحكم: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 39

مربوبون واعتقدوا في فضلنا ما شئتم» «1»

.التاسعة: ما رواه الكليني عن عبد العزيز بن مسلم، قال: «كنّا مع الرضا عليه السلام …

ثم ساق حديثاً طويلًا عنه في الإمامة، وفيها: إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلي مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم … الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، وهي في الأُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار … فمن الذي يعرف معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء وكلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنه أو يفهم شي ء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا، كيف وأنّي؟ وهو بُعد النجم عن يد المتناولين ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا، وأين العقول عن هذا» «2»

.وروي في المنتخب من بصائر الدرجات لسعد بن عبد اللَّه الأشعري، عن ابن عيسي بإسناده إلي المفضّل، قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا تجحدوه، وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردّوه إلينا «3».

فبيّن عليه السلام أنّ الضابطة في صحّة إسناد النعوت والأوصاف لهم عليهم السلام والمدار في تحقيق مقاماتهم، ليس علي عدم غرابة النعت، ولا علي تعقّلنا

لتلك النعوت وإمكان فهمنا لها تفصيلًا، ولا علي أنسنا لتلك الأوصاف والنعوت، بل ولا علي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 40

صرف صحّة السند وعدمه، وإنّما المدار علي إمكان كون تلك الصفة صفة المخلوقين، أي عالم الإمكان ما سوي اللَّه، وإن لم يكتنه العقل المحدود للبشر كنه حقيقة تلك الصفة بنحو التفصيل، لكنّه يدرك إجمالًا أنّ الصفة صفة ممكن حادث، لا صفة المختصّة بالذات الأزلية الغنية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 41

قاعدة آلية أُخري وهي معرفتهم بالخلقة النورية … ص: 41

وهي أنّه تعالي أوّل ما بدأ بخلق نورهم، ثمّ خَلَق جميع الأشياء بعد ذلك.

وهذه القاعدة في المعرفة متطابقة المعني مع الإطار السابق: نزلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم. من الكرامة الوجودية التي حباها اللَّه تعالي لهم ولن تبلغوا كنه ذلك. وبسبب تطابق المعني بين الإطارين فهما قاعدة واحدة، ذُكِرا في الرواية الخامسة المتقدّمة- في لسان الإطار الأوّل.

وقد عقدت أكثر المجامع الحديثية من الفريقين باباً لذكر روايات الإطار الثاني، وهي أنّ بدأ الخلقة كان نور النبيّ صلي الله عليه و آله، ثمّ أنوار أهل بيته، ومن ثمّ بقية الخلق، من العرش والكرسي واللوح والقلم والجنّة والسماوات والأرضين وعالم الأرواح وعالم الأجسام … وقد تعدّدت ألفاظ الحديث بسطاً واختصاراً واللفظ الجامع لها. ثمّ نعقّبه بالمصادر من الفريقين، ثمّ إشارة مقتضبة لمفاد الحديث وأُمومته لبقية أبواب المعارف.

فأمّا لفظ الحديث من بعض طرقنا، ما روي في الكافي:

«أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد اللَّه، عن محمّد بن عيسي ومحمّد بن عبد اللَّه، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: قال اللَّه تبارك وتعالي: يا محمّد، إنّي خلقتك وعليّاً نوراً، يعني روحاً بلا بدن، قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، فلم تزل تهلّلني وتمجّدني، ثمّ

جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 42

تمجّدني وتقدّسني وتهلّلني، ثمّ قسّمتها ثنتين، وقسّمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة:

محمّد واحد، وعليّ واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثمّ خلق اللَّه فاطمة من نور إبتدأها روحاً بلا بدن، ثمّ مسحنا بيمينه فأفضي نوره فينا» «1»

.وكذلك ما رواه الكافي في نفس الباب: «الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلي بن محمّد، عن أبي الفضل عبد اللَّه بن إدريس، عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجري طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤون ويحرّمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلّاأن يشاء اللَّه تبارك وتعالي.

ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد» «2»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 43

وذكر المجلسي في ضمن شرحه للرواية: فأشهدهم خلقها، أي خَلَقها بحضرتهم وبعلمهم، وهم كانوا مطّلعين علي أطوار الخلق وأسراره، فلذا صاروا مستحقّين للإمامة؛ لعلمهم الكامل بالشرائع والأحكام وعلل الخلق وأسرار الغيوب، وأئمّة الإمامية كلّهم موصوفون بتلك الصفات دون سائر الفرق فيه، فيبطل مذهبهم، فيستقيم الجواب علي الوجه الثاني أيضاً.

ولا ينافي هذا قوله تعالي: «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1»

، بل يؤيّده؛ فإنّ الضمير في (ما أشهدتهم) راجع إلي الشيطان وذرّيته، أو إلي المشركين؛ بدليل قوله تعالي سابقاً: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي» «2»

وقوله بعد ذلك: «وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» «3»

، فلا ينافي إشهاد الهادين للخلق.

قال الطبرسي رحمه الله: قيل: معني الآية أنّكم اتّبعتم الشياطين كما يتّبع من

يكون عنده علم لا يُنال إلّامن جهته، وأنا ما أطلعتهم علي خلق السماوات والأرض ولا علي خلق أنفسهم، ولم أعطهم العلم بأنّه كيف يُخلق الأشياء، فمن أين يتبعونهم؟ انتهي.

وأجري طاعتهم عليها: أي أوجب وألزم علي جميع الأشياء طاعتهم، حتّي الجمادات من السماويات والأرضيات، كشقّ القمر وإقبال الشجر وتسبيح

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 44

الحصي، وأمثالها ممّا لا يحصي، وفوّض أُمورها إليهم من التحليل والتحريم والعطاء والمنع، وإن كان ظاهرها تفويض تدبيرها إليهم فهم يحلّون ما يشاؤون، ظاهره تفويض الأحكام كما سيأتي تحقيقه … الخ. «1»

وكذلك ذكر قدس سره في ذيل روايات أوّل ما خلق من الروحانيين العقل، وذكر له ستّة تفاسير، وقال عقب تفسير الفلاسفة:

فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبيّ والأئمّة عليهم السلام في أخبارنا المتواترة علي وجه آخر، فإنّهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدّم في الخلق لأرواحهم إمّا علي جميع المخلوقات، أو علي سائر الروحانيين في أخبار متواترة. وأيضاً أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الأخبار كونهم عليهم السلام علّة غائية لجميع المخلوقات، وأنّه لولاهم لما خلق اللَّه الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف علي النفوس والأرواح، وقد ثبت في الأخبار أنّ جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسّطهم تفيض علي سائر الخلق، حتّي الملائكة والأنبياء.

والحاصل، إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهم السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات علي جميع الخلق، فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر، كان فيضان الكمالات من اللَّه أكبر …

فعلي قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ صلي الله عليه و آله الذي انشعبت منه أنوار الأئمّة

عليهم السلام، واستنطاقه علي الحقيقة. أو بجعله محلّاً لمعارف الغير المتناهية.

والمراد بالأمر بالإقبال ترقّيه علي مراتب الكمال وجذبه إلي أعلي مقام القرب والوصال، وبإدباره إمّا إنزاله إلي البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 45

فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويشير إليه قوله تعالي: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَسُولًا» «1»

، وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة، ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلي الخلق، وبالإدبار الرجوع إلي عالم القدس بعد إتمام التبليغ؛ ويؤيّده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار علي الإقبال وعلي التقادير.

فالمراد بقوله تعالي (ولا أكمّلك) يمكن أن يكون المراد ولا أكمّل محبّتك والارتباط بك وكونك واسطة بينه وبيني، إلّافيمن أحبّه، أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهم عليهم السلام، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة، أي هذا النور بعد تشعّبه بأي بدن تعلّق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلي اللَّه تعالي. انتهي. «2»

وأمّا في طرق العامّة، فقد ذكر صاحب عبقات الأنوار السيّد حامد حسين اللكهنوي عن حديث النور، قال:

الحديث الثامن: «ما رووا أنّه صلي الله عليه و آله قال: كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، ولمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب …» الحديث.

قال صاحب العبقات: لقد نسب الدهلوي صاحب التحفة الاثني العشرية- رواية حديث النور إلي الإمامية فقط، وادّعي إجماع أهل السنّة علي كونه موضوعاً، وعن مدي تعصّب صاحبها وعناده بذكر رواة الحديث من الصحابة والتابعين وكبار علماء أهل السنّة، ثمّ ذكر أسماء رواة حديث النور من الصحابة وعدّتهم ثمانية،

كما ذكر رواة حديث النور من التابعين وعدّتهم ثمانية أيضاً،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 46

وذكر العلماء والمحدّثين والحفّاظ الذين رووا الحديث في مجاميعهم وعدّتهم واحد وأربعون، بطرقهم المختلفة. منهم: ابن حنبل، وابنه عبد اللَّه، وابن مردويه، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن عبد البرّ القرطبي، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي المكي، وابن عساكر الدمشقي، والمحبّ الطبري، والحمويني، والگنجي الشافعي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.

ثمّ أخذ رضوان اللَّه عليه- في إثبات تواتر الحديث، ثمّ ذكر مصادر الحديث واحداً واحد، وذكر صحّة أسانيد الحديث لديهم، ثمّ ذكر كلام الشيخ ابن عربي في تفسير الحديث بأنّه: لم يكن أقرب إلي اللَّه تعالي في عالم الهباء وهو عالم النور- من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب، أمام العالم بأسره، والجامع لأسرار الأنبياء أجمعين «1».

ثمّ نَقَل عن ابن عربي في الفتوحات: إنّ جميع الأنبياء يأتيهم الإمداد من تلك الروح الطاهرة لسيّد الأنبياء، في ما يظهرون فيه من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسولًا وتشريعهم الشرائع.

ونَقَل عنه قوله أيضاً: إنّ اللَّه لمّا جعل منزل محمّد صلي الله عليه و آله السيادة فكان سيداً ومن سواه سوقة، علمنا أنّه لا يُقاوَم؛ فإنّ السوقة لا تقاوم ملوكها، فله منزل خاصّ وللسوقة منزل، ولمّا أُعطي هذه المنزلة وآدم بين الماء والطين، علمنا أنّه الممدّ لكلّ إنسان مبعوث بناموس إلهي أو حكمي، وأوّل ما ظهر من ذلك في آدم، حيث جعله اللَّه خليفة عن محمّد صلي الله عليه و آله فأمدّه بالأسماء كلّها من مقام جامع الكلم التي لمحمّد صلي الله عليه و آله.

ثمّ نَقَل كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني من كتابه اليواقيت والجواهر وتقريره

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 47

لكلام ابن

عربي. ثمّ نَقَل كلام شمس الدين القناري وتقريره لكلام ابن عربي في مصباح الانس «1».

ثمّ نَقَل مصادر حديث النور عند الإمامية، فذكر جملة من الروايات عن الكليني في الكافي، وعن الصدوق في جملة من كتبه، وعن الشيخ المفيد في الاختصاص، والشيخ الطوسي في الأمالي، والراوندي في الخرائج والجرائح، والعلّامة الحلّي في كشف اليقين، وتفسير فرات الكوفي … وجملة غفيرة أُخري من علماء الإمامية. «2»

هذا، وقد روي بألفاظ متعدّدة أيضاً، فمنها: ما رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه، كما حكاه عنه صاحب كشف الخفاء «3» بسنده عن جابر بن عبد اللَّه قال:

«قلت: يارسول اللَّه، بأبي أنت وأُمّي، أخبرني عن أوّل شي ء خلقه اللَّه قبل الأشياء؟ قال:

يا جابر، إنّ اللَّه تعالي خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء اللَّه، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنّة ولا نار، ولا ملك، ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جنّي ولا إنسي، فلمّا أراد اللَّه أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل السموات، ومن الثاني الأرضين،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 48

ومن الثالث الجنّة والنار.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة باللَّه، ومن الثالث نورانيتهم وهو التوحيد لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه» … الحديث، كذا في المواهب.

وقال فيها أيضاً: واختُلف، هل القلم أوّل المخلوقات بعد النور المحمّدي أم لا؟

فقال الحافظ أبو يعلي الهمداني: الأصحّ أنّ العرش قبل القلم؛ لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر، قال: «قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: قدّر اللَّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه علي الماء». فهذا صريح في أنّ التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أوّل خلق القلم، فحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: «أوّل ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فقال: ربّ: وما أكتب؟ قال:

اكتب مقادير كلّ شي ء»، رواه أحمد والترمذي وصحّحه.

وروي أحمد والترمذي، وصحّحه أيضاً من حديث أبي رزين مرفوعاً: إنّ الماء خُلق قبل العرش». وروي السدي بأسانيد متعدّدة: «أنّ اللَّه لم يخلق شيئاً ممّا خلق قبل الماء».

فيجمع بينه وبين ما قبله، بأنّ أوّلية القلم بالنسبة إلي ما عدا النبوّي المحمديّ والماء والعرش. انتهي.

وقيل: الأوّلية في كلّ شي ء بالإضافة إلي جنسه، أي أوّل ما خلق اللَّه من الأنوار نوري، وكذا باقيها، أو في …

وروي في كشف الخفاء أيضاً- عن كتاب الأحكام لابن القطّان، فيما ذكره ابن مرزوق، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قال: كنت نوراً بين يدي ربّي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام». انتهي ما في المواهب.

ونبّه الشبراملسي: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أنّ اللَّه تعالي له نور قائم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 49

بذاته؛ لاستحالته عليه تعالي؛ لأنّ النور لا يقوم إلّابالأجسام، بل المراد خُلِق من نور مخلوق له، قيل: نور محمّد، وأضافه إليه تعالي؛ لكونه تولّي خلقه. ثمّ قال:

ويحتمل أنّ الإضافة بيانية، أي خلق نور نبيّه من نور هو ذاته تعالي، لكن لا بمعني أنّها مادّة خلق نور نبيّه منها،

بل بمعني أنّه تعالي تعلّقت إرادته بإيجاد نور بلا توسّط شي ء في وجوده. قال: هذا أولي الأجوبة، نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالي: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» «1»

، حيث قال إضافة إلي نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنّه خلق عجيب، وأنّ له مناسبة إلي حضرة الربوبية. انتهي ملخّصاً «2».

وكذا ما رواه أحمد بن حنبل «3» بسنده عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

وروي سبط ابن الجوزي: «قال أحمد في الفضائل: حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه تعالي قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، فلما خُلق آدم قُسّم ذلك النور جزئين: فجزء أنا وجزء عليّ» «4»

.وروي العاصمي: «أخبرنا الحسين بن محمّد، حدّثنا عبد اللَّه بن أبي منصور، حدّثنا محمّد بن بشر، حدّثنا محمّد بن إدريس الرازي، حدّثنا محمّد ابن عبد اللَّه بن المثني، حدّثنا حمدي الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: خُلقت وعليّ بن أبي طالب من نور واحد يسبّح اللَّه عزّ وجلّ في يمنة العرش قبل خلق الدنيا» «5»

.وروي القطيعي: «حدّثنا الحسن، حدّثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدّثنا الفضيل بن عياض، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: سمعت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 50

حبيبي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه عزّوجلّ قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزئين: فجزء أنا وجزء عليّ»

«1»

.وروي الخوارزمي: «بسند متّصل إلي زياد بن المنذر، عن محمّد بن علي ابن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه تعالي قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة» «2»

.وروي الگنجي الشافعي: «أخبرنا إبراهيم بن بركات الخشوعي … عن عكرمة، عن ابن عبّاس: قال النبي صلي الله عليه و آله: خلق اللَّه قضيباً من نور قبل أن يخلق الدنيا بأربعين ألف عام، فجعله أمام العرش، حتّي كان أوّل مبعثي، فشقّ منه نصفاً فخلق منه نبيّكم، والنصف الآخر عليّ بن أبي طالب» «3»

.وروي ابن المغازلي: «أخبرنا أبو طالب محمّد بن أحمد بن عثمان … عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذرّ، قال: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: كنت أنا وعليّ نوراً عن يمين العرش، يسبّح اللَّه ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلم أزل أنا وعليّ في شي ء واحد حتّي افترقنا في صلب عبد المطّلب» «4»

.وروي ابن المغازلي: «أخبرنا أبو غالب محمّد بن أحمد بن سهل النحوي … عن سعيد بن عبد العزيز، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيّ صلي الله عليه و آله، قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم، فساقها حتّي قسّمها جزئين: جزءً في صلب عبد اللَّه وجزءً في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّاً، وأخرج عليّاً وصيّاً» «5»

.وروي الحمويني: «أخبرني الشيخ الصالح جمال الدين أحمد … عن العلاء ابن عبد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 51

الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلي الله عليه و آله، قال: لمّا خلق اللَّه

تعالي أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش، فإذا في النور خمسة أشباح سجّداً وركّعاً، قال آدم: هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا ياآدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك، لولاهم لما خلقتك …» «1»

.والحاصل: إنّ مضمون هذه القاعدة وهي خلقتهم النورانية وإبداعها قبل كلّ الخلائق- مروية بألفاظ مختلفة عند الفريقين، وبطرق متعدّدة في المصادر الكثيرة، ويدلُّ علي مضمون هذه القاعدة من الآيات قوله تعالي: «اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»، فنورهُ تعالي المضاف إليه بالإضافة التشريفية هو نور السماوات والأرض، اشتقّ منه وجودها كما ورد في أحاديث الفريقين في أنّه أوّل ما خلق اللَّه نور النبيّ صلي الله عليه و آله- وهذا النور مرتبط في تركيب الآيات بجملة «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»، وهذه البيوت هي رجالٌ عُصموا عن اللهو بالتجارة والبيع، لا يفترون عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 52

الزكاة، فهذا النور مرتبط بأرواحهم، فحقيقة معرفة هؤلاء الرجال هو معرفتهم بمبدأ خلقتهم وهو النور.

وبعبارة أُخري: إنّ في صدر آيات النور ذكر مبتدأ، وهو قوله: «مَثَلُ نُورِهِ»، أي النور المضاف إلي

اللَّه تعالي بالإضافة الخلقية، ثمّ بعد ذلك أخبر عنه بأخبار متعدّدة تباعاً، فأخبر عن ذلك النور:

أوّلًا: بتشبيهه بخمسة أُمور «كَمِشْكَاةٍ..».

ثانياً: تعاقب هذا النور بعد الخمسة وتعدده «نُورٌ عَلَي نُورٍ».

ثالثاً: هداية اللَّه لنوره من يشاء «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ».

رابعاً: كون هذا النور في بيوت معظّمة مبجّلة رفعها اللَّه بإذنه، ووصف هذه البيوت التي فيها النور بعدّة أوصاف، وإنّ تلك البيوت رجالٌ لا حجر ومدر: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ..».

ويتحصّل من هذه الأخبار المتعدّدة عن نور اللَّه، أنّ هذا النور المخلوق للَّه المشرّف بالإضافة التشريفية والتكريم إلي الذات المقدّسة، هو في رجالٍ معصومين عن اللهو، لا يفترون عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أي أنّهم دائماً في مقام العبودية والطاعة.

وكون هذا النور فيهم يعني أنّه أعلي مرتبة في أرواحهم، كما أنّ هذا النور بمقتضي الخبر الأوّل، مبتدأه وفي بدوه خمسة أنوار؛ لأنّ التشبيه وقع علي خمسة أشياء، أي بكلّ من المصباح والزجاجة والمشكاة والكوكب الدريّ والشجرة.

كما أنّ مقتضي الخبر الثاني تعاقب الأنوار بعد الأنوار الخمسة، وهذا المفاد لظهور الآيات متطابق مع ما ورد في روايات الفريقين في الخلقة النورانية من أنّ الخمسة أصحاب الكساء- هم مبتدأ خلق النور ومن ثم بقية العترة، ولا ريب أنّ أحد الخمسة وسيّدهم هو النبيّ صلي الله عليه و آله، ولا تكتمل عدّة الخمسة الذين فيهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 53

النبيّ صلي الله عليه و آله إلّابالخمسة الذين وقعت بهم المباهلة، وهم أصحاب الكساء الذين نزلت في حقّهم آية التطهير بنصّ روايات الفريقين.

والعمدة التفطّن إلي أنّ تعدّد التشبيه في الآية إلي خمسة ليس جزافاً وزخرفاً في الكلام، بل المغزي منه الإشارة

إلي أنّ هناك خمسة مشبّهين بخمسة أُمور مشبّه بها، وأنّ لكلّ مشبّه وجه شبه في المشبّه به الموازي له، وقد ورد في نصوص الفريقين مسائلة النبي عن تلك البيوت، وأنّ بيت عليّ وفاطمة منها؟

فقال صلي الله عليه و آله: «نعم، من أفاضلها» «1»

.ونصّ الحديث في السيوطي، وأخرجه عن ابن مردويه، عن أنس بن مالك وبريد: «قال: قرأ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله هذه الآية: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ»، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال:

يا رسول اللَّه، هذا البيت منها، بيت عليّ وفاطمة؟ قال: نعم، من أفاضلها».

ولا يخفي أنّ هذه الرواية فيها دلالة علي أنّ أبا بكر قد اختلج في نفسه أنّ بيت عليّ وفاطمة ومقام عليّ وفاطمة عند اللَّه في الحجّية والاصطفاء والطهارة لا يقتصر عن مقام الأنبياء، ومقتضي جواب النبيّ صلي الله عليه و آله إثبات هذا المعني، بل مقتضي الجواب علوّ مقامهما وأرفعيته وأنّه أعلي.

وممّا ورد في كون هذه البيوت منطبقة علي المساجد أيضاً في الآية الكريمة وبضميمة مفاد هذه الرواية، تبيّن أنّ مراقدهم عليهم السلام هي بيوت لهم أيضاً، وهي أفضل شرفاً وعظمة من المساجد، ولذلك نقل السمهودي في وفاء الوفاء: إجماع أهل سنّة الخلافة بأنّ ما ضم الأعضاء الشريفة له صلي الله عليه و آله أعظم فضلًا من مكّة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 54

المكرّمة. وحُكي هذا الاجماع عن القاضي عياض، والقاضي أبو وليد الباجي، وأبو اليمن بن عساكر، بل نُقل عن التاج السبكي، عن ابن عقيل الحنبلي: أنّ تلك البقعة هي أعظم من العرش. «1»

وتوهّم بعض الرواة أنّ المراد من البيوت هو البيت الطيني الذي يحلّ

فيه أهل البيت، مع أنّ المراد بحسب ظهور الآية- من البيوت هو نفس الرجال المطهرون، كما هو مفاد قول الإمام الباقر عليه السلام في ذيل الآية الكريمة.

ويعضد مفاد الخلقة النورية لهم عليهم السلام المستفادة من آيات سورة النور- ما في قوله تعالي في سورة البقرة: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» «2»

.ومقتضي مفاد هذه الآيات أنّ السبب في تأهّل آدم للخلافة الإلهية هو معرفته بعلم الأسماء الجمعي، وبه تشرّف لمقام سجود وطاعة وتبعية الملائكة له، ولم يكن جميع الملائكة عالمين بتلك الأسماء.

ويستفاد من هذا الاستعراض القرآني لهذه الواقعة أُمور:

الأوّل: إنّ تلك الأسماء موصوفة بغيب السماوات والأرض، وفي الآية التالية من تلك الآيات نري أنّ الملائكة لم تكن تعلم بتلك الأسماء، مع أنّ الملائكة تملأ السموات والأرض، فلو كانت كينونة تلك الأسماء في السموات أو في الأرض لعلمتها الملائكة ولأحاطت بها خُبراً، بل إنّ تنبّه الملائكة لها بعد عرضها

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 55

عليهم- ليس علم إحاطة بالأسماء، وإنّما هو علم إنبائي، لا كعلم آدم علم لدني، والعلم اللدني منه ما يكون عياني، بخلاف الإنبائي فإنّه حصولي.

الثاني: إنّ هذه الأسماء ليست أصوات متموّجة وكلمات لسانية، بل هي موجودات حيّة شاعرة عاقلة؛ لقوله تعالي: «عَرَضَهُمْ» حيث إنّ الضمير (هم) لا يُستعمل إلّافي ذلك؛ ولقوله تعالي: «بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ» فإنّ اسم الإشارة (هؤلاء) لا يُستعمل إلّافي ذلك أيضاً؛ ولقوله تعالي: «… فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ» فيُعلم أنّ هذه

الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة، هي سنخ موجودات كينونتها في الغيب الذي هو باطن السماوات، أي في نشأة ما وراء السماوات وما وراء نشأة الملائكة، وهذا ينطبق علي المخلوقات النورية، ولا ريب في كون نور النبيّ هو أحدها، لأنّه سيّد الكائنات والمخلوقات، كما في قوله تعالي: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَي» «1»

، وقوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «2»

.فتحصّل من هاتين الطائفتين الإشارة الواضحة إلي الخلقة النورية المتقدّمة علي خلق السماوات والأرض باعتبار وصفها غيب السماوات والأرض.

وهناك آيات أُخري تتعرّض لخلقتهم النورانية، لسنا في صدد بسط الدلالة حولها، ونكتفي بالإشارة في الموضع المناسب لها، نظير قوله تعالي: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «3»

، وقوله تعالي: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «4»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 56

والمهم الالتفات إلي أهميّة هذه القاعدة في الاعتقادات والمعرفة الدينية؛ حيث إنّ لها موقع الأُمومة والأصل لكثير من المعارف والقواعد والمسائل الاعتقادية، وقد مرّ نماذج من ذلك في الروايات، حيث إنّهم عليهم السلام يستدلُّون علي بقية مقاماتهم بذكر هذا الأصل المعرفي.

وهذه الأُمور لهذه القاعدة تقتضيها القواعد الحكمية والعقلية؛ إذ للصادر الأوّل والصوادر الأُولي في الإبداع الوجود الأشرف، بالقياس إلي سائر أقسام الخلقة، فلابدَّ من توفّرها علي سائر الكمالات التي تكون فيما دونها من الخلقة، فإذا تقرّر أنّ النور المُبدَع له الأسبقية، في الخلقة فلا بدَّ أن تكون له كلّ كمالات ما دونه وزيادة، كما لا بدّ أن يكون له الإشراف والهيمنة علي ما دونه بإذن واقدار اللَّه تعالي.

وعلي هذا التقرير لمعرفتهم بالخلقة النورانية معرفتهم بالنورانية- يتّضح تطابق هذه القاعدة مع

القاعدة المتقدّمة: نزّلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا كنه ما جعله اللَّه لنا.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 57

الفصل الخامس: فهرست المناهج التي اعتمدها الإمامية … ص: 57

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 59

: فهرست المناهج التي اعتمدها الإمامية … ص: 59

المنهج الأوّل: عبارة عن إثبات كبري الإمامة بالأدلّة النقلية، ثمّ إثبات المصداق، بمعني تشخيصه لا أصل وجوده؛ وإلّا فأصل وجوده قد دلّ عليه بنفس الكبري.

وهذه الكبري إمّا قرآنية أو روائية أو عقلية أو شهودية قلبية.

المنهج الثاني: إثبات النصوص الخاصّة الواردة بأسمائهم عليهم السلام، وهي علي أنحاء: تارة بأسماء كلّ واحدٍ منهم، وأُخري في خصوص عليّ والحسن والحسين، وذرّية الحسين عليهم السلام.

وغير ذلك من أنحاء التسمية.

المنهج الثالث: إثبات الأدلّة العقلية علي الكبري وضرورة وجود المعصوم عليه السلام وهذه الأدلّة تُثبت تارةً بالعقل العملي وأُخري بالعقل النظري.

المنهج الرابع: إثبات إمامتهم عليه السلام عبر معاجزهم العلمية، ببسط البيان في موارد انعطاف الأُمّة الإسلامية إلي انحرافات هدّامة لولا الهداية العلمية التي قام بها آل البيت عليهم السلام. أو ببيان دقائق أسرارهم في العلوم والمعارف التي بثّوها والتي تتحدّي المضمار العلمي إلي يومنا في العصر الحديث، مع ما كانت عليه الجزيرة العربية من البداوة وندرة العلوم، وإحاطتهم باختلاف المذاهب، وتعدّد شؤون علومهم الروحية والحكمية والمادّية، وكذلك لجوء المخالفين بالرجوع إلي أهل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 60

البيت عليهم السلام «1» … وتراثهم العلمي في شتّي العلوم ماثل بين يدي البشرية يفوق ويتحدّي في الحلبة العلمية علم أيّ عالم وأيّ حاضرة علمية، كيف لا وهم أعدال الكتاب الذي له هذه الصفة أيضاً!

المنهج الخامس: مقارعة الدول المعاصرة لهم بكلّ طاقاتها وقواها، واستعانتها ببقية الدول البشرية علي ذلك، مع ما كان يدّعيه آل محمّد صلي الله عليه و آله من الكمال وعدم الإعياء في العلم ممّا يثير نائرة التحدّي معهم، فقد تحدّوهم في العلوم والفنون ومختلف المهارات، حتّي في الفروسية والطبّ وعلوم الشعبذة، وغيرها.

المنهج السادس: إثبات خصوص إمامة عليّ عليه السلام

أو الحسنين، أو إمامة المهدي (عج)، أو بهما معاً مع ضمّ ضمائم أُخري، من قبيل تنصيص عليّ عليه السلام علي من بعده، أو استلزام إمامة الثاني عشر عليه السلام لإمامة من قبله.

المنهج السابع: ريادتهم وسبقهم جميع البشر من عاصرهم ومن لم يعاصرهم- في تمام الكمالات والفضائل، وفي شتّي الصفات الفضيلية والكمالية الروحية والعقلية والنفسية والبدنية.

المنهج الثامن: الآيات البينة التي هي معاجز غير المعاجز العلمية، مثل قلع باب خيبر، وتكلّمهم بكلّ لسان وعلمهم بلغة الحيوانات.

المنهج التاسع: الملاحم الإخبارية التي أنبأوا بها، كخطبة البيان وأخبار آخر الزمان وما أخبروا عن أحوال معاصريهم. وقد دوّن الفريقان فصولًا في كتبهم التاريخية وكتب السير ونحوها من إخبارات عليّ عليه السلام عن الملاحم.

المنهج العاشر: تنصيص الكتب السماوية السابقة عليهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 61

المنهج الحادي عشر: معرفتهم التامّة لفظاً ومعنيً وشؤوناً بالكتب السابقة وبالشرايع السابقة وبتواريخها الخفية ومنظومة الأولياء.

المنهج الثاني عشر: تطابق السنن الجارية علي الأنبياء المسطورة في القرآن مع ما جري لهم وعليهم في شؤونهم الفردية وشؤونهم العامّة مع الناس. كما في هارون عليه السلام وعليّ عليه السلام، وغيبة الحجّة عليه السلام وموسي عليه السلام، ونظير الرضا عليه السلام ويوسف عليه السلام، ونظير يحيي عليه السلام والجواد عليه السلام، وعيسي وإدريس والياس والخضر عليهم السلام مع الحجّة (عج)، ومريم عليها السلام وفاطمة عليها السلام.

المنهج الثالث عشر: وهو إثبات إقدار اللَّه عزّوجلّ لهم علي خوارق العادات والمعجزات، باعتراف خصومهم، حيث أسموا ذلك بأنّه سحر من بني هاشم، بدءاً من قريش في العهد المكي، إلي العهد المدني وعهد التابعين وتابعيهم إلي بداية الغيبة.

المنهج الرابع عشر: إثبات العلم اللدني لهم عليهم السلام، من تراجم كتب رجال وحديث العامّة، وذلك بواسطة الروايات التي روتها العامّة

عنهم، المتضمّن مفادها لدعواهم عليهم السلام بعدم استقاء علمهم من غيرهم، وأنّ علمهم لا يعي عن إجابة المسائل المختلفة، مضافاً إلي تلّمذ علماء المذاهب علي أيديهم دون غيرهم.

وهناك غير ذلك من المناهج، يستطيع الباحث الوقوف عليها في كتب الإمامية المستفادة من الكتاب والروايات والعقل والفطرة السليمة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 63

نبذة في تطويف الآيات القرآنية الدالّة علي الإمامة … ص: 63

اشارة

ولنستعرض جملة يسيرة من تلك الطوائف لا علي سبيل الاستقصاء:

الأُولي: آيات الثقلين، وهي جملة من الآيات تفيد عين مفاد حديث الثقلين.

الثانية: آيات الهداية والصراط، وهي جملة من الآيات في السور الدالّة علي أنّ هداية الأُمّة هي علي عاتق أئمّة هداة يقومون مقام النبيّ صلي الله عليه و آله.

الثالثة: آيات الاستخلاف، ومفادها بيان السنّة الإلهية في جعل الخليفة في الأرض مزوّداً بالعلم اللدني والعلم الأسمائي الجامع.

الرابعة: آيات التبليغ، وهي المتضمّنة للأمر الإلهي بإبلاغ الإمامة والولاية.

الخامسة: آيات الولاية، وهي المتضمّنة للفظ وعنوان الولاية، وأنّها لثلّة من هذه الأُمّة خاصّة.

السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم عليه السلام، ومن هذه الأُمّة.

السابعة: آيات الإمامة، المتضمّنة للفظ وعنوان الإمامة.

الثامنة: آيات الأنفال والفي ء والخمس لذي القربي.

التاسعة: آية التسليم علي آل ياسين (آيات أولياء الدين وحججه).

العاشرة: آيات شهادة الأعمال، المتضمّنة لوجود ثلّة من هذه الأُمّة تشهد أعمال الأُمّة في كلّ عصر إلي يوم القيامة، وهم الأشهاد.

الحادية عشر: آيتا التطهير.

الثانية عشر: آية الأشهر الإثني عشر.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 64

الثالثة عشر: آيات التولّي والتبرّي.

الرابعة عشر: آيات الكتاب المبين والمكنون.

الخامسة عشر: آيات رباني هذه الأُمّة.

السادسة عشر: آيات الوسيلة والسبيل.

السابعة عشر: آيات النور.

الثامنة عشر: آيات ليلة القدر، وصاحبها وليّ الأمر النازل في تلك الليلة.

جدولة مصادر الطوائف: … ص: 64

الطائفة الأُولي: آيات حديث الثقلين: آل عمران: 7، الواقعة: 77- 81، الرعد:

39 و 43، النحل: 64 و 89، القيامة: 16 19، الأنعام 38 و 59، يس: 12، النحل: 40 و 75، البروح: 22، ص: 22، يونس: 61، فاطر: 32، الحجر: 75 76، يوسف:

111، العنكبوت: 47، الحج: 54، سبأ: 6، البقرة: 121، الأنعام: 154 155، الأعراف: 144.

الطائفة الثانية: آيات الهداية والصراط: الرعد: 7، سورة الحمد، يونس: 35 و 131، الأعراف: 181 و 184، الأنبياء: 73،

السجدة: 24، الجن: 16، طه: 82 و 135، التوبة: 119، الأنعام: 153، الاسراء: 158، النمل: 75، المؤمنون: 73 74، النور: 55، الملك: 22، الحج: 54، الفرقان: 27، يونس: 180، غافر: 6 و 10، مريم:

6 7، محمد: 17، الكهف: 24، العنكبوت: 69، المائدة: 67، البقرة: 18، يس:

82، إبراهيم: 22.

الطائفة الثالثة: آيات الاستخلاف: البقرة: 30، النمل: 62، ص: 26، وهي متطابقة مع حديث: خلفائي اثنا عشر من قريش.

الطائفة الرابعة: آيات التبليغ: المائدة: 3 و 67.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 65

الطائفة الخامسة: آيات الولاية: النساء: 59، المائدة: 54 56، الأحزاب: 6، آل عمران: 63، النور: 54 و 55.

الطائفة السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم: آل عمران: 33 34، الحج:

75 78، البقرة: 237، النساء: 54 و 58، آل عمران: 68، الزخرف: 26- 28، الأنبياء: 73، البقرة: 127 128، آل عمران: 164.

الطائفة السابعة: آيات الإمامة: البقرة: 124، النساء: 154، هود: 17، الأحقاف: 12، يس: 12، الأنبياء: 73، السجدة: 24، القصص: 5.

الطائفة الثامنة: آيات الأنفال والخمس والفي ء والقربي: الحشر: 7، الروم:

38، الأنفال: 41، الشوري: 23، الاسراء: 26.

الطائفة التاسعة: أولياء الدين وحججه، وآيات الأشهر الحرم: آل عمران:

61، الصافات: 130، البراءة: 36.

الطائفة العاشرة: آيات شهادة الأعمال: البراءة: 105، النحل: 89، البقرة:

143، الحج: 78، الرعد: 43، آل عمران: 140، المطففين: 21، الواقعة: 11، النساء: 41، الأعراف: 46.

الطائفة الحادية عشر: آيتا التطهير: الواقعة: 79، آل عمران: 42.

الطائفة الثانية عشر: التولّي والتبرّي: الأعراف: 3، الممتحنة: 4، الزخرف:

26، البقرة: 166 و 167، البراءة: 114، المجادلة: 22، الشوري: 23، محمّد: 29.

الطائفة الثالثة عشر: آيات الكتاب: الواقعة: 79، البروج: 21 22، آل عمران:

7 و 79، النساء: 54، المائدة: 44 و 48، الأنعام: 38 و 59 و 114، البراءة: 36، يونس: 61،

هود: 1 و 6، الرعد: 31 و 39 و 43، الحشر: 21، النحل: 89، الكهف:

49، طه: 52، الحج: 70، الشعراء: 2، النمل: 1 و 75، سباء: 3، الدخان: 2، الزخرف: 2 4، فاطر: 11، الشوري: 52، المطففين: 18 20، يس: 12.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 66

الطائفة الرابعة عشر: آيات الوسيلة: التكاثر: 8، البقرة: 211، المائدة: 35، الاسراء: 58، الفرقان: 57، سباء: 47، الشوري: 23.

الطائفة الخامسة عشر: آيات مقامهم النوري: النور: 35 36، البقرة: 31 34 و 37، النساء: 171، البقرة: 124، الكهف: 109، لقمان: 27، التحريم: 12، الأنعام:

115، الأعراف: 158، الأنفال: 7، الشوري: 24، آل عمران: 39 و 45، إبراهيم: 24، الزخرف: 28، التغابن: 8، البراءة: 32، الزمر: 69.

أما الطائفة الأولي: تفصيل آيات الثقلين وهي علي أنماط:

الأوّل: سورة الحمد.

الثاني: سورة آل عمران.

الثالث: الواقعة: 78، الأحزاب.

الرابع: سورة الأنعام: 38 و 59 و 154، الدخان: 1 2، فاطر: 32، العنكبوت: 47 50، البقرة: 121، النمل: 40، الرعد: 31 و 39 و 43، البروج: 22، الأعراف: 145، يوسف: 101، الاسراء: 12 و 14، المائدة: 48، يونس: 61.

الخامس: النحل: 89.

السادس: القيامة: 17، النحل: 64.

السابع: سباء: 6، الحج: 54.

الثامن: النساء: 83، محمّد: 16.

التاسع: المائدة: 44. وهي تتطابق مع طائفة آيات ربانيو الأمة.

العاشر: الشوري: 23، الأنعام: 90، يوسف: 104، سباء: 47.

الطائفة السادسة عشر: آيات ليلة القدر وصاحبها وليّ الأمر النازل فيها، وهي تتطابق مع قالب آيات حديث الثقلين: سورة القدر، سورة الدخان: 1 3، النحل: 1، غافر: 15، الشوري: 52.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 67

النصوص القرآنيةالدالّة علي إمامة أهل البيت عليهم السلام … ص: 67

اشارة

القسم الأوّل: آيات الثقلين: وهي طوائف:

الطائفة الأولي: الراسخون في علم الكتاب … ص: 67

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

.إنّ الظهور الأوّلي الإجمالي لهذه الآية الشريفة، هو الإعلان عن وجود قسمين من آيات الكتاب الكريم: محكم ومتشابه. كما أنّها تقسّم المكلّفين إلي أقسام:

راسخون في العلم، وغير راسخين. وغير الراسخين إلي قسمين: قسم يتّبع المتشابه، وهم الذين قد زاغت قلوبهم عن الصراط المستقيم وعن الحقّ. والقسم الآخر لا يتّبع المتشابه، ولكنّها ترشد إلي لزوم اتّباع الراسخين في العلم؛ كي يهدوهم إلي تأويل المتشابه بالمحكم.

كما أنّ الآية تُعلم بأنّ المحكمات لها مقام الأُمومة في آيات الكتاب، ممّا يعني أنّ المتشابهات كفروع لها، والتأويل لغةً: من الأوْل، أي الرجوع والأوب، وانتهاء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 68

شي ء إلي شي ء، من آل شي ء إلي آخر، أي انتهي إليه.

وتأويل المتشابه، إمّا بمعني الانتهاء إلي المعني الحقيقي المراد منه، أو بمعني انتهاء المتشابه إلي أصله وهو المحكم، وهو يتّحد مع المعني السابق أيضاً؛ إذ برجوع المتشابه إلي المحكم يوجب كشف المعني المراد من المتشابه، وأنّه منسجم ومتلائم معه.

وبمقتضي النقطة الأخيرة وما تقدّم، يستلزم أنّ الإحاطة بالمحكم إحاطة تامّة، غير مقدور عليها لغير الراسخين في العلم؛ وذلك لأنّ الإحاطة التامّة بالمحكم تستلزم العلم بتأويل المتشابه؛ إذ المفروض في المحكم أنّ له الأُمومة والهيمنة والمرجعية لتفسير بقية الآيات، فعدم العلم بحقيقة المتشابه ناشئ من عدم فرض الإحاطة التامّة بالمحكم، إذ لا تشذ آية في المتشابه عن حيطة المحكمات وقيمومة معانيها علي تلك الآيات، فلا تكون متشابهة عند المحيط خبراً بالمحكمات.

وهذا يدلّ علي أنّ المتشابه

وصف نسبي إضافي بالإضافة إلي غير الراسخين، وأمّا الراسخون فلا تشابه لديهم في الآيات، وإن كان التقسيم إلي المحكم الأمّ وإلي الآيات الفرعية وصف حقيقي غير إضافي لنفس الآيات في نفسها.

وكلّ ذلك لا يلزم منه تعطيل الكتاب أو تجميده أو فقده لصفة الإعجاز بتوهّم أنّ آياته المحكمات لا يحاط بها للكلّ، والمتشابه لا يؤخذ به بنفسه لإجمال المراد منه، يزيغ من يتابعه من دون مفسّر معتبر صحيح، والمحكم لا يحاط؛ وذلك لأنّ الآية في صدد بيان كيفية الأخذ واشتراطه باتّباع الراسخين بالعلم ومعونتهم وإرشادهم.

فيتبين أنّ الأخذ الذي لا بدّ منه المفترض في تلك الآية والتمسّك بالكتاب اللازم يجب أن يكون مقروناً بالتمسّك بأولي العلم الراسخين، لا أنّها في صدد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 69

حجب الكتاب عن التمسّك به، بل غاية دلالتها أنّ التدبّر بالقرآن والتمسّك به يجب أن يكون مقروناً وبمعيّة الراسخين في العلم.

عين ما يقال من أنّ كلّاً من الكتاب والسنّة مصدر للشريعة؛ فإنّ معني الاثنينيّة في الحجّية ليس بأن يكون كلّ منهما مستقلّ عن الآخر، ولا بأن يكون أحدهما معطّلًا للآخر، وكونه فاعلًا أو غير فاعل، بل أن يكون هناك معية بينهما، وتشاهد وتعاضد وتكافل، ومن ثمّ لا يستلزم تعطيل أحدهما ولا فقد الكتاب المجيد لإعجازه؛ لأنّ ادراك المعجزة فيه لا يتوقّف علي الإحاطة بكلّ محكماته فضلًا عن متشابهاته، بل يكفي في ذلك معرفة البعض.

وكون الراسخين في العلم ثلّة من هذه الأُمّة الإسلامية لا خصوص فرد واحد، وكون هذه المجموعة باقية سلسلتها ما بقيت حجّية القرآن في هذه النشأة، وأنّها لا تُرفع إلّابرفع الكتاب يوم القيامة، كلّ ذلك لأنّ الكتاب لا يؤخذ به بنحو تامّ إلّا بهم.

ويستفاد من الآية أنّ التمسّك بالكتاب علي انفراد

لا يتحقّق بصورة صحيحة كاملة تامّة إلّابهم، كما لا يتحقّق التمسّك بهم إلّابالتمسّك بالكتاب؛ لأنّهم هادون إلي محكماته وتأويل متشابهاته. وهو مفاد حديث الثقلين.

وإنّ علم الراسخين في العلم ليس من العلم الكسبي؛ لأنّه لا يؤهّل إلي ذلك مهما بلغ الإحاطة بدرجة من محكمات الكتاب؛ إذ من الضروري أنّ الكتاب المجيد الحجّة لكلّ هذه النشأة، لا تنتفي حقائقه ولا تحصي محكماته المحيطة بتطاول هذه النشأة، بل وبالنشآت السابقة واللاحقة، فالعلم التامّ بكلّ الكتاب الذي أثبتته هذه الآية للراسخين في العلم لا يكون إلّامن سنخ العلم اللدني؛ إذ الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي ء وما من غائبة في السموات والأرض إلّا فيه- هو من لدن الغيب، والعلم التام به من سنخه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 70

ولا سيما وأّن الآية قد قرنت تشريفاً- الراسخين في العلم باللَّه تعالي، ونفت العلم بالكتاب كلّه عن الجميع، وحصرته في الذات الإلهية ومن بعده بالراسخين في العلم، ممّا يعطي شرافةً وتعظيماً للراسخين في العلم كحجج اللَّه علي خلقه، ووهبهم ذلك النمط اللدني من العلم.

ومقتضي حجّية الكتاب وحجّية الراسخين في العلم، أنّ حجّيته مرهونة بحجّيتهم، وحجّيتهم مرهونة بحجّيته أيضاً، فالحجّتان من سنخ واحد، ممّا يدلّ علي عصمتهم؛ وإلّا لو جاز عليهم الخطأ لانسدّ باب العلم في الكتاب ولزم التعطيل.

ويشير إلي مقام حجّيتهم ذيل الآية: «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ» «1»

، إشارة الآية إلي مثل هذه المضامين إنّما يتفطّن إليها ذو اللبّ، لا ذو الذهنية القشرية الذي لا يبصر إلّاالقشور. وكذلك الآية اللاحقة «رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» «2»

، أي أنّ ذوي الألباب بتفطّنهم بحجّية الراسخين في العلم بمعية الكتاب العزيز، يكونون قد اهتدوا إلي

كيفية التمسّك بالكتاب والأخذ به من دون زيغ قلوبهم عن الحقّ؛ إذ من تفرّد بالأخذ بالكتاب من دون التمسّك بالراسخين بالعلم، قد حكمت عليه الآية بزيغ قلبه، فلذلك اتّبع المتشابه، وأنّ اتّباعه للمتشابه طلباً لفتنة الناس عن الحقّ وعن الدين، وطلباً لتأويل الكتاب وعطفه علي ما يوافق أهوائهم وجهالتهم.

كما أنّ جملة «يقولون آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» «3»

المجعولة صفة للراسخين في العلم علي تقدير الواو عاطفة، أو خبر علي تقدير كون الواو استئنافية، فإنّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 71

الجملة الدالّة علي علم الراسخين بالعلم بالتأويل حيث إنّ الضمير عائد إلي التأويل، وتعلّق الإيمان به يستلزم العلم به بنحو ما، لا سيما وأنّه قد وصف بإضافته إلي أنّه من عند اللَّه، والتوصيف يستلزم التعيين، كما أنّ وصفهم بالراسخين بالعلم أيضاً مشعرٌ بذلك، وكذا إرداف ذكرهم للمستثني وهو الباري تعالي، وكذا قولهم بعدم مخالفة المتشابه للمحكم؛ لأنّ كلّ منهما من عند اللَّه تعالي، أي وحدتهما في ذلك دالّ علي معرفتهم بكيفية رجوع المتشابه إلي المحكم، أي تأويله به.

مضافاً إلي أنّه لو لم يكن ثلّة من هذه الأُمّة بعد الرسول صلي الله عليه و آله تعلم متشابه القرآن وكيفية تأويله بالمحكم، لكان يلزم منه تعطيل الكتاب بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله. وهذا هو مفاد حديث الثقلين.

وبذلك تدلّ الآية علي اختصاص علم الكتاب بهم بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، دون غيرهم من الأُمّة.

ثمّ إنّ مقتضي إحاطتهم بعلم الكتاب هو إحاطتهم بناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيده، وموارد نزوله، وعزائمه، من رخصه، ومغايرة متشابهه من محكمه. وهذه الحجّية لهم بمعية حجّية الكتاب كما تقدّم في تبين كيفية العمل بالكتاب، وتنفي الاستقلالية، أي استقلالية غيرهم

بالفهم للاستفادة من الكتاب، فحينئذٍ يعمل بموازين الدلالة المقرّرة في علوم الأدب بضميمة الاستعانة بالثقل الآخر.

مضافاً إلي وجوه التشاهد الآتية بين هذه الآية وبقية آيات الثقلين الدالّة علي إحاطة الراسخين في العلم في هذه الأُمّة بالكتاب كلّه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 72

الطائفة الثانية: من عندهم بيان تبيان الكتاب لكلّ شي ء … ص: 72

وهم كما في قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «1»

.وقوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ* وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» «2»

.و «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

و «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَي الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» «4»

.أما الآية الأولي الدالّة علي الثقل الأوّل بل الثقلين معاً- فقد فُسّر (تبياناً لكلّ شي ء) بأنّه تبيان لكلّ أُمور الدين، أي العلوم الدينية. والتفسير الآخر أنّ فيه تبياناً لكلّ شي ء من أُمور الدين وغيره، فيشمل العلوم الدينية وغير الدينية، لا سيما أنّ معارف الدين محيطة بكلّ الحقائق الكونية.

وتقريب الاستدلال في الآية يتمّ علي كِلا القولين، وقد وقع المفسّرون من العامّة في حيص وبيص في تفسير معني الآية فلاحظ كلماتهم، وإن كان الثاني هو الصحيح؛ لما في قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

؛ وقوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 73

إِلَّا فِي كِتَابٍ

مُبينٍ» «1»

؛ وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

؛ وقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «3»

، وغيرها من الآيات الدالّة علي إحاطة الكتاب بكلّ صغيرة أو كبيرة. مضافاً إلي ما سيأتي في الطائفة الثالثة.

ثمّ إنّ شمولية الكتاب أوسع من التوراة، كما دلّت عليه الآيات في سورة الأعراف، وهي قوله تعالي: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ» «4»

.وهذا هو الثقل الأوّل، بل في الآية إشارة إلي الثقل الثاني أيضاً، حيث تُبيِّن وجود شاهد في كلّ أُمّة، والأُمّة الجيل من الناس أو القرن، أي وجود شاهد في كلّ قرن يشهد علي الناس أعمالهم، ويكون هذا الشاهد من نفس أُمّة ذلك القرن، ويكون الرسول شاهداً علي هؤلاء.

قال الفخر الرازي في ذيل الآية: اعلم أنّ هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلّفين عن المعاصي، واعلم أنّ الأُمّة عبارة عن القرن والجماعة، إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأوّل: إنّ المراد أنّ كلّ نبيّ شاهد علي أُمّته. والثاني: إنّ كلّ جمع وقرن يحصل في الدنيا فلابدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شاهداً عليهم، أمّا الشهيد علي الذين كانوا في عصر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليهم وآله وسلّم، فهو الرسول؛ بدليل قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» «5»

.وثبت أيضاً أنّه لابدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول من الشهيد.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 74

فتحصل من هذا أنّ عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد علي الناس، وذلك الشهيد لابدّ وأن يكون

غير جائز الخطأ؛ وإلّا لافتقر إلي شهيد آخر، ويمتدّ ذلك إلي غير نهاية، وذلك باطل، فثبت أنّه لابدّ في كلّ عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأُمّة حجّة. «1»

أقول: ما تبيّن من دلالة الآية هو الحقّ من لزوم شاهد غير جائز الخطأ، ولكن تطبيق ذلك علي إجماع الأُمّة واهي غايته؛ فإنّ الأُمّة منقسمة في أكثر أمرها، فأين الشاهد في ما اختلفت فيه.

وحيث أنّ الشاهد لابدّ أن يكون عالماً بأعمال العباد، كما يشير إليه قوله تعالي:

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2»

، فيري أعمال العباد حين صدورها.

ومن الواضح أنّ علم كلّ ذلك كان لدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، إذ ما كان ينزل عليه شي ء إلّاكان يعلمه ويعلّمه غيره، لكن لا يحيط بكلّ تعليمه إلّاالأُذن الواعية، كما قال تعالي: «لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» «3»

، وهي أُذن عليّ عليه السلام كما جاء في أحاديث الفريقين. «4»

وقد قال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «5»

، وقال تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 75

«وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» «1»

، وقال تعالي: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2»

.وكيف يبيّن ما لم يعلمه، وكيف يفرض أنّ علمه عند غير رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ مع أنّ بيانه علي عهدة ووظيفة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بيان كلّ الكتاب.

ثمّ إنّ عملية إنزال حقائق الكتاب لتبيان ما فيه لم ينقطع ويرتفع بموت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ إذ هو باقٍ لتنزّله كلّ عام ليلة القدر إلي يوم القيامة، فعلمه في كلّ الكتاب لابدّ أن

يكون باقياً في ثلّة من هذه الأُمّة، وهو الثقل الثاني، وهو الذي تشير إليه الآية الثانية من قوله تعالي: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» «3»

، و (بل) للإضراب إمّا عمّا سبق في الآيات عليها، أو عن كون علم الكتاب أي كون الآيات بينات في صدور من عدا الذين أوتوا العلم. وعلي كلا التقديرين تدلّ علي حصر علم وبيان ما في الكتاب بالذين أُوتوا العلم، والضمير (هو) عائد إلي الكتاب المجيد، بمقتضي السياق ومقتضي توصيفه بالآيات.

ثمّ إن الذين أُوتوا العلم قد ذُكروا في آيات أُخر، كقوله تعالي: «وَيَرَي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَي صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» «4»

، وقوله تعالي: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «5»

، وقوله تعالي: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَي الْكَافِرِينَ» «6»

، وقوله تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 76

وَالإْيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَي يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ» «2»

، وقوله تعالي: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّي إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ» «3»

، وقوله تعالي: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» «4»

.وهذه الآيات تصفهم بصفات التحلي بالعلم اللدني والعلم بالكتاب كما في قولهم: «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَي يَوْمِ الْبَعْثِ» «5»

، حيث بمقتضي علمهم بالكتاب المحيط بالنشأتين لا يجهلون كيفية أحكام النشأة الأخري.

كما أنّ الآيات آنفة الذكر أثبتت لهم رؤية ومعاينة الذي أُنزل إلي النبيّ صلي الله عليه و آله من الوحي.

ويُستفاد من سورة النحل أنّ الذين أُوتوا العلم هم المعصومون؛ إذ أُبعد عنهم مطلق الخزي، كما أنّ إثبات التكلّم في مواطن من يوم القيامة والبعث دالّ علي رفعتهم ومكانتهم وكونهم ذوي صلاحيات من المقام المحمود، وأنّهم لا تأخذهم أهوال يوم القيامة ولا أهوال البعث، وقد وصف اللَّه تعالي مشاهد ذلك اليوم بقوله: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَايَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 77

صَوَابًا» «1»

.وأيضاً قد أطلق علي القرآن في سورة القصص: «طَسِمِ* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ» «2»

، وكذا في سور اخري «3»، وكذا ما مرّ في الطائفة الثانية من وصف الكتاب بأنّ فيه تبيان كلّ شي ء، وقد نُعت الكتاب المبين في القرآن بأنّ ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلّافيه، وأنّه فيه مفاتح الغيب وما في البرّ والبحر وكلّ شي ء. وكذا ما مرّ في الطائفة الأُولي من وصف الآيات المحكمات للكتاب بأنّها أُمّ الكتاب، وقد ذُكر في آيات هذه الطائفة، أنّ كلّ ما يمحي ويثبت في المشيئة الإلهية هو في أُمّ الكتاب. فمحكمات الكتاب هي أُمّ الكتاب.

ويتحصّل حينئذٍ: إنّ القرآن الكريم يشتمل علي جميع مسائل علوم الدين والعلوم الأُخري، وهذا يعزّز عموم مفاد الطائفة الثانية من أنّ في الكتاب تبيان كلّ شي ء، ويدعم ذلك أنّ القرآن قد وصِف أنّه مهيمن علي الكتب

السابقة، كما في قوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» «4»

، والهيمنة هي الإحاطة، مع أنّه قد وصفت بعض الكتب السماوية المتقدّمة باحتوائها علي غير علوم الدين، كقوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» «5»

، فإنّ المجي ء بعرش بلقيس بقدرة علمٍ من الكتاب ليس ممّا يرتبط بالأحكام، وكذا قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «6»

، فقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 78

وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «1»

دالّ علي أنّ حقيقة القرآن تشمل وتحوي المشيئات الإلهية، وهما مشيئة المحو ومشيئة الإثبات، فضلًا عن القضاء والقدر الإلهيين.

كما أنّ في الكتاب علم بكافة الكائنات والمخلوقات الأرضية والسماوية، بمقتضي قوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، هذا كلّه في الثقل الأوّل وهو الكتاب الكريم.

أمّا الثقل الثاني، فمضافاً إلي الآيات في الطائفتين السابقتين حيث بيّنت أنّ تأويل كلّ الكتاب والإحاطة بمحكماته هو عند الراسخين في العلم، وأنّ مجموع القرآن الكريم آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وهم الراسخون في العلم المشار إليهم، وهم المطهرون في

آية التطهير الذين يمسّون الكتاب المكنون، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «5»

.وهم المعبّر عنهم بمن عنده علم الكتاب في قوله تعالي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «6»

، وهذه الآية آخر سورة الرعد المكّية نزولًا، ولم يكن قد أسلم يومئذٍ في مكّة من أهل الكتاب أحد، فالمراد بها هو أحد المسلمين التابعين لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله ممّن شرّف بهذا العلم.

فقد ذكرت أقوال في المراد من الآيتين المتقدمتين.

أحدها: إنّه هو اللَّه، كما عن الحسن والضحّاك وسعيد بن جبير والزجاج،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 79

واستُدلّ له بقول ابن عبّاس إنّه كان يقول: ومن عند اللَّه علم الكتاب. «1»

وثانيها: إنّ المراد به أهل الكتاب، منهم: عبد اللَّه بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري، كما نسب إلي ابن عبّاس وعبد الملك بن عمير وجندب، وغيرهم. «2»

ومقتضي ذلك أن تكون مدنية، كما عن ابن مردويه وابن الزبير والكلبي ومقاتل. وكلا القولين كما تري في الضعف والسقوط؛ فإنّ ظاهر الآية اثنينية الشهادة والشاهدين، والسورة كلّ آياتها مكّية، والآية الأخيرة مذكورة في سياق نتيجة للآيات السابقة، فكيف يفكّك النزول بينها فتكون سابقتها مكّية وهي خاصّة مدنية؟ وليس هذا إلّا تعصّب وعناد ممجوج، وسيأتي بسط الحديث في ذلك أكثر بعد الطائفة الثالثة.

ثم إنّه يستفاد من الطائفة الثانية أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ هذه الطائفة بمجموع الآيتين دالّة علي لزوم الرجوع إلي ثلّة معصومة في مقام التمسّك بالكتاب العزيز، وعند إرادة تبيّن الأحكام الشرعية والمعارف من الكتاب العزيز، نظير ما تقدّم في الطائفة الأُولي.

الأمر الثاني: تدلّ أيضاً علي استمرار بقاء تلك الثلّة ببقاء القرآن وبقاء هذا الدين،

حيث إن هذه الملحمة القرآنية في الآية الأُولي- وهي دعوي بيان حكم وعلم كلّ شي ء في القرآن- علي مرّ الأزمان والعصور محتاجة إلي من يبيّن ذلك من القرآن.

الأمر الثالث: إنّ حجّية هؤلاء الثلّة- عدل حجّية القرآن، وإنّ هذه الحجّية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 80

بنحو معي، ومن الواضح اقتضاء ذلك عصمة تلك الثلّة علماً وعملًا؛ وإلّا لاختلّ وانسدّ باب الرجوع في الكتاب إلي كلّ شي ء.

أمّا العصمة العلمية؛ فلأنّ الآية الثانية تدلّ علي أنّ مجموع القرآن هو بيّن في صدورهم، والمفروض أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شي ء، مضافاً إلي أنّه مع فرض الجهل العلمي في تلك الثلّة يستلزم حصول العجز لكافة الأُمّة عن الوصول إلي كلّ ما يحتاجونه من أحكام الكتاب ومعارفه.

وأمّا في صورة عدم العصمة العملية؛ فلأنّه سوف تُفقد الأمانة والوثوق في الرجوع إلي أقوالهم.

الأمر الرابع: إنّ هذه الطائفة تعضد الاستثناء في الطائفة الأُولي من أنّ الذي يعلم متشابه القرآن إنّما هو اللَّه والراسخون في العلم حيث؛ إنّ في هذه الطائفة دلالة علي أنّ آيات القرآن بيّنة عندهم غير متشابهة.

الأمر الخامس: إنّ العلم الذي بتوسّطه صار مجموع القرآن بيّن لهم، هذا العلم إيتائي وهبي عطائي من اللَّه تعالي، لا تسبيبي (كسبي)، أي أنّه علم لدني. وقد أشار إليه القرآن الكريم في آيات عديدة، كما في سورة الكهف حيث قوله تعالي:

«فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «2»

، وقوله تعالي:

«قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» «3»

، وقوله تعالي: «وَلَقَدْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 81

آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» «1»

.الأمر السادس: إنّ علمهم لدنيّ، علمٌ تالي لعلم النبيّ صلي الله عليه و آله وتابع للنبوّة؛ حيث إنّ ذلك العلم متعلّق ببيان كلّ الكتاب، كما في آية العنكبوت المتقدّمة، أو تأويل كلّ الكتاب، كما في قوله تعالي في آل عمران: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «2»

، وهو تأويل الكتاب المنزّل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فعلمهم متأخر رتبة عمّا أُنزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ومن ثمّ أُطلق علي علمهم أنّه وراثة عن النبيّ صلي الله عليه و آله، وليست هذه الوراثة هي وراثة معهودة بل هي وراثة نورانية، أي أنّ تلقّيها لدنيّ من اللَّه تعالي وبوساطة نبويّة.

الطائفة الثالثة: الذين يحيطون بالكتاب المبين … ص: 81

قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «5»

، وقوله تعالي:

«وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..» «6»

، وقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «7»

، وقوله تعالي: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «8»

، وقوله تعالي: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 82

وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

.والآيات الأُولي الدالّة علي استطار كلّ

شي ء في الخلقة في الكتاب، فكلّ غائبة وكلّ رطب وكلّ يابس لم يفرط في تدوينه في الكتاب، وكل ما يُمحي ويُثبت في عالم الخلقة في الكتاب. وقد وصف القرآن بالكتاب المبين أي بأنّ القرآن هو ذلك الكتاب المبين-، كما في سورة الدخان من قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «2»

، وقوله تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ» «3»

، وقوله تعالي: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «هُدًي وَبُشْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ» «5»

، وقوله تعالي: «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «6»

، مع أن إستطار كلّ شي ء في الكتاب المبين صرّح به في إحدي الآيات «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7»

، وقوله تعالي:

«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «8»

. وهذه الطائفة مع كونها دالّة بالاستقلال علي الثقلين بضميمة قوله تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 83

في الرعد: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

فالحريّ بنا أن ننقّح الحال في كون الآية مكّية في قبال القولين السابقين اللذين مرّا في الآية وأنّها مدنية.

وهذا القول يستلزم كون الآية مدنية؛ لأنّ هؤلاء وهم عبد اللَّه ابن سلام أو سلمان الفارسي أو تميم الداري- أسلموا بعد الهجرة، وكلا القولين بعيدين عن الحقيقة والصواب.

أمّا القول

الأوّل، فإنّ ما نُسب إلي ابن عبّاس فمع كون النسبة غير مسندة، فتكون القراءة شاذّة لا يجب التعويل عليها في قبال المتواتر من قراءة الآية، أي أنّ (مَنْ) اسم موصول لا حرف جرّ.

أمّا القول الثاني، فيردّه شواهد عديدة:

الأوّل: كون الآية مكّية كما عن النحاس عن ابن عباس، وممّن ذهب إلي أنّها مكّية سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر ابن زيد. «2»

الثاني: إنّ سياق السورة من أوّلها إلي آخرها سياق واحد في المحاججة مع الكفّار، مثل قوله تعالي: «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَي ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ* وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «4»

، ومن الظاهر أنّ هذا اللحن لحن دعوة الرسول صلي الله عليه و آله في مكّة مع كفّار قريش كبقية السور المكّية، لا أُسلوب المواجهة بالقوّة والتهديد بالقتال، وكذلك هو لحن الطرف الآخر وهم الكفّار- لحن المطالبة بالمعجز أي الحجاج المنطقي، وهي مرحلة متقدّمة في عهد مكّي من الرسالة تختلف عن العهد المدني من أُسلوب المواجهة مع الرسول

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 84

القائد لدولته التي أنشأها في المدينة.

ثمّ إنّ السورة تتابع آياتها بنفس السياق والأُسلوب، كقوله تعالي: «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَايَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَي الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ* وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ …» «1»

، وكذلك الآيات اللاحقة: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ

عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» «2»

، وكذا قوله تعالي:

«كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ* وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «3»

.وأجمع المفسّرون وأصحاب السير: أنّ الآية الأخيرة نزلت في مكّة لمطالبة قريش النبيّ صلي الله عليه و آله بهذه الأُمور الخوارق، ومن الواضح أنّ السياق لا يمكن تفكيكه بل هو تابع مع مبتدأ السورة، فمن الغريب ما نُسب إلي بعضهم قوله أنّ السورة مكية وخصوص هذه الآية مدنية، مع أنّ هذه الآية كما يلاحظ بالتدبّر في السورة متّصلة النظم وهي في مقام الجواب عن حجج الكافرين، فكيف يصحّ إقحام هذه الآية المدنية بعد فرض كون الآيات السابقة جميعاً مكية؟

وهكذا في استرسال بقية الآيات كقوله تعالي: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِي ءَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ» «4»

، والإمهال كان في مكّة، وقوله تعالي: «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ …» «5»

، وكذا قوله تعالي: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 85

رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» «1»

، و «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «2»

، و «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ» «3»

، و «أَوَلَمْ يَرَوْا …» «4»

، و «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَي الدَّارِ» «5»

، و «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا

لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «6»

.فتجد أنّ مخاطبة الكفّار في هذه الآية الأخيرة هي عين مخاطبتهم السابقة وبنفس اللحن من الحجاج المنطقي، بل إنّ مضمون هذه الآية الأخيرة ملخّص وحاصل لجميع الآيات السابقة، بل في هذه الآية تصريح وتعرّض لرفض مقترحات الكفّار والتي طلبت في الآيات السابقة، كما في قوله تعالي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» «7»

، ومقترحهم بتسيير جبال مكّة وتكليم الموتي رفض بقوله تعالي: «قُلْ كَفَي …» أي إنهاء للمحاججة وقطع للحجّة بشهادة اللَّه وشهادة من عنده علم الكتاب، وهذا دلالة علي مكّية الآية الأخيرة.

الثالث: لم يوصف علماء اليهود والنصاري والأحبار عدا أنبيائهم ورسلهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 86

وأوصيائهم بهذه الصفة من العلم بالكتاب، فهم في قوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَ آهُ مُسْتَقِرًّا …» «1»

، هو وصف لآصف بن برخيا وصي سليمان، وقد بيّنت هذه الآية أنّ خاصّية علم الكتاب القدرة التكوينية الخارقة كالتي كانت حاصلة لدي آصف، وقد أشارت إليه سورة الرعد نفسها في قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي …» «2»

ومن الواضح أنّ هذه الخاصّية والصفة إنّما تُعطي لذوي المناصب الإلهية كالأوصياء والرسل، ومن ثمّ وصف بعلم الكتاب أكثر أنبياء اللَّه.

كما أنّ آيات الثقل الأوّل في هذه الطائفة مبيّنة لاحتواء الكتاب بكلّ المشيئات الإلهية وبكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة ورطب ويابس، فالإحاطة بمثل هذا العلم لم يكن لدي من أسلم من اليهود والنصاري كما زُعِم،

كعبداللَّه بن سلام وتميم الداري وغيرهما، فمع خطورة هذا المقام وعظمة شأن هذه الصفة يمتنع أن يكون مصداقها هؤلاء، وذلك دليل بيّن علي كون نزولها في مكّة وأنّ مصداقها هو من يكون وصياً للنبيّ صلي الله عليه و آله.

الرابع: إنّ شهادة من عنده علم الكتاب أمر أُردف بشهادة اللَّه تعالي للدلالة علي أنّها تتلوها في السنخ، وبعبارة أُخري: إنّ إدلاء الشاهد بالشهادة يستلزم تحمّل الشاهد عياناً للأمر المشهود به، ممّا يعني أنّ الشاهد لديه إدراك حضوري عياني لعملية إنباء النبيّ ونزول الوحي علي قلبه الشريف، ونزول الوحي علي قلب النبيّ صلي الله عليه و آله أمر غيبي ليس من عالم الشهادة والحسّ، فلا يتيسّر للشاهد الشهادة إلّاأن يشهد بقلبه كيفية نزول الوحي علي النبيّ صلي الله عليه و آله، وكيف لا يتيسّر له ذلك وعنده علم الكتاب الذي استطرّ فيه كلّ شي ء.

وهذا ما يشير إليه قول علي عليه السلام في الخطبة المعروفة بالقاصعة: «… ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور الوحي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 87

والرسالة وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حيث نزل الوحي عليه صلي الله عليه و آله فقلت: يارسول اللَّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري إلّاأنك لست بنبيّ، ولكنّك لوزير وإنّك لعلي خير». «1»

ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَيَرَي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» «2»

، فإّنه قد أثبت الرؤية لا الرأي، وقد وصف القرآن الذين أوتوا العلم بأنّ مجموع القرآن آيات بيّنات في صدورهم.

وأمّا قوله تعالي: «وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ

عَلَي مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ» «3»

، وهذا وإن كان شهادة ممّن أسلم من بني إسرائيل علي مثل القرآن من الكتب السابقة المنزّلة، إلّاأنّه في الحقيقة ليس الاعتداد بشهادتهم الصادرة منهم من جهة أشخاصهم، وإنّما هي في الحقيقة شهادة الكتب السابقة علي نبوّة النبيّ الخاتم وحقّانية القرآن المنزّل، فالشهادة إذن لصدق النبوّة وصدق القرآن هي بشاهد غيبي، وهو الكتب المنزّلة السابقة مسانخ ومن نمط المشهود له.

الخامس: إنّ لفظ (الكتاب) في الآية لم يُقيّد بقيد الدالّ علي إرادة الكتب السابقة المنزّلة، مضافاً إلي أنّ (ال) إمّا جنسية أو عهدية، والجنسية هو ما يراد به اللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وقد تقدّم أنّه لا يحيط به من أسلم في المدينة من أهل الكتاب، ولا ادَّعي ذلك ولا ادُّعي فيهم ذلك، وإنّما الذي ادّعي ذلك في الأُمّة الإسلامية هم خصوص عترة النبيّ صلي الله عليه و آله.

وأمّا إن كانت عهدية، فالعهد الذهني والعهد الذكري واللفظي في السورة إنّما هو القرآن الكريم، فالعالم بالكتاب المراد به العالم بتمام القرآن.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 88

فتحصّل حينئذٍ:

إنّ من عنده علم الكتاب المقرونة شهادته بشهادة اللَّه تعالي هو ممّن أسلم مع النبيّ صلي الله عليه و آله في مكّة، وممّن قد زُوّد بعلم أُمّ الكتاب، أي ممّن له علماً لدنياً بتمام حقائق القرآن الكريم. ومن البيّن أنّ صلة الموصول في الآية دالّة علي حجّية شهادته، وأنّ منشأ تلك الحجّية هو إحاطته بالكتاب المستطرّ فيه المغيّبات، إذ من يكون بهذه المنزلة هو الذي يتمكّن من تحمّل تلك الشهادة والإحاطة بصدق المشهود بها، وهذا وجه حجّية شهادته.

وحيث احتجّ اللَّه تعالي بشهادته فلابدّ من علم قريش ومعرفتهم لهذه الصفة التي فيه وإن جحدوا لساناً، سواء حصلت معرفتهم بذلك- وباتّصاف

هذا الشاهد بهذه الصفة- سابقاً، أو بتوسّط نفس الاحتجاج بأن يكون في وصف اللَّه أنّ الشاهد هو بتلك الصفة تنبيهاً للكفّار علي منشأ حجّية شهادته، وأنّ ذلك المنشأ وتلك الصفة بإمكانهم التحقّق من وجودها والفحص عن ثبوتها في الشاهد.

وهذا ما تشير إليه المصادر التاريخية من وقيعة قريش في بني هاشم بأنّهم بيت سحر والعياذ باللَّه- وأنّه طالما رؤي منهم السحر. ووقيعتهم تلك كانت شاملة لعليّ عليه السلام، ممّا يدلّل علي مشاهدة قريش خوارق العادات من بني هاشم ومن عليّ عليه السلام، إلّاأنّهم يجحدوها بلسانهم ويصفوها بأنّها سحر.

ويشير إلي ذلك قول عليّ عليه السلام في الخطبة القاصعة عندما طلبت قريش من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يظهر لهم معجزة الشجرة في حركتها وتكلّمها، فأظهر لهم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذلك، فقال عليّ عليه السلام: «فقلت أنا لا إله إلّااللَّه إنّي أوّل مؤمن بك يارسول اللَّه، وأوّل من أقرّ أن الشجرة فعلت ما فعلت بإذن اللَّه تعالي تصديقاً بنبوّتك وإجلالًا لكلمتك، فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلّامِثلُ هذا يعنونني- وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، سيماهم سيماء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 89

الصدّيقين وكلامهم كلام الأبرار، عُمّار الليل ومنار النهار، يتمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يضلّون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل» «1»

.وعدم استجابة قريش للأمر في القرآن بأنّ عليهم الاكتفاء بشهادة اللَّه وشهادة من عنده علم الكتاب، أي أنّهم لم يستشهدوا بمن عنده علم الكتاب، كما لم يستشهدوا بالقرآن علي صدق نبوّته صلي الله عليه و آله.

فيتحصّل من هذه الطائفة

أُمور:

الأوّل: اشتمال القرآن علي لوح التشريع والتكوين، أي بتمام كلّ من اللوحين.

الثاني: إحاطة من عنده علم الكتاب وهم المطهّرون الذين يمسُّون مكنون القرآن كما سيأتي في الطوائف اللاحقة- وهم الراسخون في العلم كما في الطائفة الأولي- والذين يعلمون تأويله ومتشابهه وهم الذين أوتوا العلم فمجموع آيات القرآن بيّنات في صدورهم كما في الطائفة الثانية-.

وإرادة الجمع من اسم الموصول (من عنده علم الكتاب) متعارف في مثل الأسماء الموصولة، ولذلك فَسّر الجمع أيضاً- من زعم أنّ الآية مدنية، وطبّقها علي مَنْ أسلم من اليهود والنصاري.

الثالث: مقتضي قوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «3»

، إنّ خاصّية علم الكتاب هو إقدار اللَّه تعالي لصاحب ذلك العلم علي إحياء الموتي والتصرّف

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 90

بخوارق العادات، مع أنّ آصف بن برخيا الذي أُشير إليه في الآية الأُولي كان عنده بعض علم الكتاب؛ لمكان (من) التبعيضية، لا سيما أنّ الآية الثانية في نفس سورة الرعد ومورد نزولها هو اقتراح الكفار باتساع أرض مكّة بإزالة الجبال وتسوية الأرض وتكليم الموتي، من دون تقييدهم وقوع ذلك بالقرآن الكريم- تتضمّن جوابه تعالي بإمكان القدرة علي ذلك بتوسّط القرآن، بياناً لعظمة القرآن التكوينية وشؤونه في الآفاق الخارجية، نظير قوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «1»

.الرابع: تتوضّح مفاد هذه الطائفة مع مفاد الطائفتين السابقتين بأمور مستنتجة، وذلك مثل ضرورة وجود ثلّة عالمة بالكتاب وما فيه؛ وإلّا لزم تعطيل

الكتاب الذي جمعت فيه حقائق الكون والتشريع، والذي فيه بيان كلّ شي ء، وأنّهم عليهم السلام في علمهم هذا بالكتاب تالين تابعين لرسول اللَّه؛ لأنّ علمهم متعلّق بما أُنزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله.

وكذا تلازم وجود القرآن ووجودهم بأنّهم حينئذٍ الوسيلة للوصول إلي تمام حقائق القرآن التشريعية والتكوينية، وما به من هداية المكلّفين مما تضطرّهم إليه الحاجة.

الطائفة الرابعة: المطهّرون والكتاب المكنون واللوح المحفوظ … ص: 90

قوله تعالي: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَفَبِهَذَا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 91

الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» «1»

.وقوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2»

.وقوله تعالي: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «3»

.ومقتضي القسم في الآية كون المقسوم عليه جملة خبرية لا جملة إنشائية؛ إذ القسم لأجل توثيق الأخبار بالمقسوم عليه، كما أنّ القسم في الآية موصوف بالعظمة لبيان عظمة المخبر به، والمخبر به كرامة القرآن، وقد فُسرت كرامته باكتنانه في كتاب غيبي لا يصل إليه إلّاالمطهّرون من الذنوب ومن الضلال، وفي ذلك بيانٌ لعزّة القرآن وقداسته عن أن يكون مبتذلًا لغير المطهرين.

فمن الواضح حينئذٍ- عدم إرادة القرآن في وجوده في رسم المصحف الشريف، بل المراد من الوجود وجوداً أسمي مكنوناً، محفوظاً في لوح غيبي لا يناله ولا يصل إليه إلّامن كان علي ارتباط بذلك الغيب واطّلاع بالمغيبات. وهذا الوجود للقرآن ليس فيه متشابه؛ لأنّ المتشابه وصف للقرآن المنزّل، أي في وجوده النازل علي صورة آيات وسور، ومنه محكم؛ وإلّا فهو في وجوده الغيبي كتاب كلّه مبين كما تقدّم وصفه بذلك في الطائفة الرابعة

آنفة الذكر. وهذا سبب كون القرآن بتمامه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم حيث إنّهم مطهرون يطّلعون علي الوجود الأرفع للقرآن أي الغيبي وهو معني مسّهم للكتاب المكنون..

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 92

إذن هناك تشاهد جلي بين هذه الطائفة والطوائف المتقدّمة، كما أنّ للقرآن في وجوده النزولي أوصافاً كما في رسم المصحف الشريف، ففي وجوده المكنون أوصاف أُخري، فبعض الأوصاف للوجود الأوّل، وبعض الأوصاف للوجود الثاني.

وهذا التعدّد في الأوصاف راجع إلي تعدّد مراتب وجود ونزول القرآن نفسه، وهو مقتضي التعبير المتكرّر في الآيات والسور بإنزال القرآن ونزوله، المستلزم لتواجد القرآن في رتبةٍ عالية ثمّ أُنزل إلي النشأة الأرضية.

كما أنّ الآية تحصر الواصل لحقيقة القرآن الغيبية ب (المطهرين)، ولا تكون الطهارة إلّابعدم اقتراف الذنب، وهي المعبّر عنها بالعصمة، وهي شاملة للبعد عن الضلال، وقد وصِف الضلال والشكّ والريب بالرجس في القرآن الكريم، كما في قوله تعالي: «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَي رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ» «2»

.بل قد أطلق القرآن الكريم الرجس علي الجهل والجهالة، كما في قوله تعالي:

«… وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ» «3»

. كما أطلق الرجس علي المعاصي المُرتكبة بالجوارح، كما في قوله تعالي: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» «4»

.فيُعلم من ذلك أنّ المطهرون هم الواجدون للطهارة عن جميع أنواع الرجس، فلا يرتابون ولا يشكّون قطّ، كما أنّهم لا يجهلون ولا يقعون في جهالة قطّ، مستكملي العقل.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 93

فالطهارة قسمان: منها عن الرذائل العملية، وأُخري عن رذائل الجهالات، فهم علي كمال في العلم والعمل بدرجة يتميزون بها، تؤهّلهم للاتّصال بالغيب والكتاب المكنون واللوح المحفوظ. فالآية دالّة

علي وجود هؤلاء المطهّرين في الأُمّة. ومن البيّن أنّ وجود هؤلاء المطهّرين لازم لبقاء القرآن؛ وإلّا للزم تعطيل حقائق وأسرار القرآن، وقد عيّنت وشخّصت آية التطهير مصداق المطهّرين، وهم أهل البيت عليهم السلام؛ لقوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «1»

، ولا يخفي الفرق اللغوي بين المطهّر والمتطهّر.

ويتحصّل مما مرّ أُمور:

الأوّل: معية الثقلين، وهم الكتاب والمطهّرون من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله.

الثاني: تصريح الآية باطّلاع الثقل الثاني علي مكنون القرآن الغيبي الذي هو من أنماط العلم الغيبي، والذي يمتازون به دون الأُمّة.

الثالث: طهارتهم وعصمتهم علماً وعملًا، وأنّ ذلك سبب تأهّلهم للإحاطة بحقائق القرآن الغيبية.

الرابع: إنّ المطهّرين هم المجموعة المعصومة المعدودة من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله.

الخامس: إنّ للقرآن حقائق غيبية تكوينية وراء وجود رسم المصحف.

الطائفة الخامسة: وراثة الكتاب والعصمة في التدبير … ص: 93

قوله تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 94

لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1»

.وقوله تعالي: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» «2»

، وقوله تعالي: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» «3»

.من الواضح أنّ الكتاب في الآية الثانية هو القرآن الكريم بحسب السياق، كما أنّ هذا التوريث المشار إليه في الآية ليس توريثاً مادّياً بالأسباب المتعارفة، نظير ما ورد في قوله تعالي: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَي» «4»

،

و «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» «5»

، وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي الْهُدَي وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ» «6»

، فالتوريث هذا توريث إلهي من سنخ الملكوت والعلم اللدني؛ بقرينة تخصيص هذه الوراثة للكتاب ب (المصطفين)، والاصطفاء بالاصطلاح القرآني قد خُصّ بالأنبياء والرسل والملائكة ونحوهم من المعصومين والمطهّرين.

وأمّا تقسيم الآية في الذيل: فمنهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق، فالضمير عائد إلي (عبادنا) أنّهم منقسمون إلي ثلاث فئات، بخلاف التوريث؛ فإنّه قد خُصّ ب (المصطفين)، نعم قد عُرّف المصطفون بأنّهم بعض من عبادنا، و (من) للتبعيض هنا لا بيانية، ويدلُّ علي كون التوريث من سنخ العلم اللدني الغيبي ذكر (السابق بالخيرات)، فإنّه عُرّف في سورة الواقعة بالمقرَّب، وعُرّف المقرَّب في سورة المطفّفين بأنّه يشهد الأعمال وكتاب الأبرار، وهو قوله تعالي: «كَلَّا إِنَّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 95

كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» «1»

، فالسابق هو المقرّب وهو الشاهد علي أعمال الأبرار، فهو مهيمن علي مقام العلّيين الذي يُدوّن فيه كتاب الأبرار، وهو مقام غيبي، وهو الذي أُصطفيَ وورث الكتاب بوراثة لدنية، وقد تقدّم في الطائفة الثالثة أنّ الذي عنده علم الكتاب يحيط بالكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي ء ومنها أعمال الأبرار.

محصّل مفاد الآية «2»: إنّ السابق هو الذي اصطُفي من العباد، والعباد ينقسمون إلي ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات.

أما الآية الأولي «3» فهي دالّة علي أنّ المفزع والمصدر في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب علي المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم الاجتماعية الرجوع والردّ إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر للبتّ في شأنه؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج ما هو

الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر.

فالآية دالّة علي أنّ تدبير الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما ذهب إليه أكثر أهل سنّة الجماعة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بأقدارٍ من اللَّه عزّوجلّ. فهذا الاستنباط هو استخراج صُراح الحقّ كما هو أصل معني الاستنباط لغةً دون المعني المصطلح عليه المتأخّر في العلوم الدينية، وليس إعمال الموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين في تدبير الأُمور العامّة من قِبل الرسول وأُولي الأمر.

نعم، قد يوهم إسناده إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر من ناحيتين:

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 96

الأُولي: إنّ الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر غير معصوم، وقد يرتكب الأخطاء أو المعاصي، فينسب ذلك بعضهم إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر، علي أنّ هذا الإسناد ليس في حقيقته متّصل بالرسول صلي الله عليه و آله، بل يُنسب إلي أعضاء حكومته صلي الله عليه و آله، نظير ما صنعه خالد بن الوليد في فتح مكّة حيث غدر ببني الأجلح فتبرّأ النبيّ صلي الله عليه و آله من فعله بقوله: «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد» «1»

وكان معيّناً من قبل النبيّ صلي الله عليه و آله علي إحدي الفرق العسكرية المرسلة، ثمّ انتدب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام ليسترضيهم ويعطي الدية لمن قُتل منهم.

وكذا ما صنعه أُسامة بن زيد حينما قتل مَن أظهر الإسلام شبهةً وظنّاً منه أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة.

الثانية: إنّ الميزان الظاهري الشرعي الموظّف العمل به أن يكون ظاهرياً، أي قد يخطئ وقد يصيب،

نظير البيّنة والحلف في القضاء كما في قوله صلي الله عليه و آله: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعة من النار» «2»

.فتحصّل: أنّ تدبيره صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر كذلك- في الحكم بمقتضي مفاد الآية الشريفة هو العصمة عن الزلل والخطأ، وأنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلي الله عليه و آله فإنّ ذلك عند التدبّر راجع إلي أعضاء جهازه الحكومي من ولاة وغيرهم، أو إلي كون الميزان الشرعي الموظّف في التدبير حيث إنّه ظاهري، فقد لا يصيب الواقع في بعض الموارد، ولكن جملة تدبير الرسول وتدبير أُولي الأمر في النظام السياسي قائم علي استخراج الحقيقة والواقع، كما هو مفاد هذه الآية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 97

ثمّ إنّ هذه الآية «1» دالّة علي وجود ثلّة هم ولاة الأمر مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلي الله عليه و آله، وأنّ لهم عصمة في التدبير وهي متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ هذه الآية خطابٌ إلي كلّ المكلّفين إلي يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما يعتريهم في أُمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك بايكاله وردّه إلي أُولي الأمر العالمين بحكمه من خلال قدرتهم علي استنباط واستخراج الحقّ والواقع فيه.

ومن البيّن أنّ هذا الاستنباط الموصّل إلي العلم بحقائق الأُمور، مستقي من الكتاب الكريم لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط؛ فإنّ ذلك لا يؤمِّن بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بالإضافة إلي ذلك ما في الكتاب من استطارَ كلّ شي ء فيه من غائبة في الأرض أو في السماء أو

رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون الذي هو الكتاب المبين والذي لا يمسّه إلّاالمطهّرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين، الأمر الذي يتنزّل عليهم في ليلة القدر بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، هذا الأمر الذي فيه يفرق ويقدّر كلّ شي ء إلي العام القابل، ويفصّل مقادير جميع الأشياء، ومن ثمّ يحيط أُولي الأمر وأصحاب الأمر المتنزّل في ليلة القدر بكلّ الحوادث الخارجية وملابساتها ويحكمون تدبيرها وإصلاحها.

ويستحصل من هذه الطائفة أُمور:

الأوّل: إنّ توريث الكتاب بالاصطفاء ليس من نمط الوراثة البشرية المعتادة، وإنّما هو عبر اصطفاء الشخص المورّث للمقام الغيبي والمنصب الإلهي اللدني، أي أن الوراثة من سنخ ملكوتي لا ملكي مادّي نظير ما تشير إليه الطوائف السابقة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 98

من كون آيات الكتاب كلّها بينات في صدور الذين أوتوا العلم وهو علم الكتاب، وهم الراسخون الذين يعلمون تأويل متشابهه الذين يمسّون الكتاب المكنون.

ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَوَرِثَ سُلَيَمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» «1»

، فإنّه كالعطف التفسيري لبيان أنّ هذه الوراثة لدنية وهبية إلهية، كما هو الحال في علم منطق الطير وأسباب القدرة التي أوتيت لداود وسليمان، وإن لم تنحصر الوراثة في الآية بالوراثة التكوينية وشملت الوراثة الاعتبارية القانونية، أو أنّ شمولها للاعتبارية بالأولوية القطعية، ولذلك أحتجّت بالآية الصدّيقةُ الزهراء عليها السلام للمطالبة بإرثها من فدك، ويتم احتجاجها عليها السلام بكلا المعنيين كما يتبين بالتدبّر.

الثاني: إنّ تدبير الرسول صلي الله عليه و آله للحكم وشؤونه السياسية والعسكرية وغيرها وأُولي الأمر الذين تقدّم وصفهم في الأمر الأوّل، هو تدبير بعلمٍ معصوم عن الخطأ، وهذا يخالف ما ذهب إليه

أهل سنّة الجماعة من حصر عصمته صلي الله عليه و آله في تبليغه الأحكام.

الثالث: الآية دالّة علي أن لا اعتصام للمسلمين في نظامهم الاجتماعي والسياسي- عن الخطأ والزلل والضعف والوهن إلّابردّ شؤونهم العامّة إلي الرسول وأُولي الأمر، والتمسّك بذيلهم من أجل الاعتصام بحبل اللَّه الممدود لهم.

الرابع: إنّ هذه الطائفة دالّة علي أنّه ما دام للمسلمين حوزة واجتماع، وما داموا مكلّفين بكتاب اللَّه وأحكامه، فإنّ هناك ثلّة مصطفاة في الأُمّة الإسلامية باقية وهم ولاة الأمر، ولهم وراثة الكتاب اللدنية، وأنّهم معصومون علماً وعملًا، ومن ثمّ كان تدبيرهم للحكم بصواب وعلم لا يخالطه جهل؛ إذ لو كان استنباطهم للأمر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 99

في التدبير العام بموازين ظنّية، لما صدق إطلاق الجزاء (لعلمه) بإطلاق الشرط (لو ردّوه) في الجملة الشرطية لمخالطة الجهل.

فهذه الطائفة دالّة علي أنّ هناك اصطفاء لثلّة من الأُمّة الإسلامية، كما أنّ الطوائف السابقة دالّة علي أنّ هناك ثلّة مطهّرة في المسلمين. وقد استُخدم لفظ الاصطفاء والتطهير في آيات الكتاب العزيز في الأنبياء وأولياء اللَّه الحجج، كقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» «1»

، فمن هذه الأُمّة الإسلامية من يجتبيه اللَّه عزّوجلّ ويطهّره من النقائص العلمية والعملية، وهي المعبّر عنها بالعصمة، فقد وقع الاصطفاء من بين هذه الأُمّة كما قد وقع التطهير، ووقع إيتاء العلم علم الكتاب لأُولئك المعنيين من بين هذه الأُمّة.

الخامسة: إنّ في ذيل هذه الآيات وصف توريث الكتاب للمصطفين وسبقهم للخيرات بإذن اللَّه، إنّه فضل كبير كما يصفه تعالي، ليس بلحاظ النعم والعطاءات في دار الدنيا، بل مطلقاً، أي أخروياً أيضاً؛ إذ لم يصف اللَّه بهذا الوصف إلّافي حقّ الرسول صلي الله عليه

و آله كقوله تعالي: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا» «2»

، فقد وصف اللَّه تعالي إنزال الكتاب علي النبيّ صلي الله عليه و آله وإيتاءه الحكمة والعلم اللدني، ووصفه بالفضل العظيم، وهو موافق إطلاق الفضل الكبير علي توريث الكتاب المصطفين وسبقهم للخيرات.

وكذا قوله تعالي: «وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا» «3»

، حيث أطلق الفضل الكبير

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 100

علي وحي الكتاب بتمام حقائقه ومعرفة بطونه، وقوله تعالي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» «1»

، فهو اطلاق علي عطاء دار الآخرة لا عطاء دار الدنيا، مضافاً إلي أنّ السياق يشهد بإرادة ذوي القربي.

وفي مقابل ذلك لم ينصّ القرآن علي إعطاء فضل كبير وعظيم لأحدٍ من الأنبياء غير الرسل، كقوله تعالي حكاية عن سليمان: «وَوَرِثَ سُلَيَمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» «2»

، فأطلق عليه أنّه فضل مبيّن، أي ظاهر غير خفي، ولم يصفه بالعظمة وكونه كبيراً.

وكذا قوله تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا» «3»

، وقوله تعالي: «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ» «4»

، وقوله تعالي علي لسان داود وسليمان عليهما السلام: «وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» «5»

، وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ

مِنَّا فَضْلًا» «6»

.ذكر اللَّه تعالي الفضل بصورة التنكير؛ للدلالة علي أنّه نوع من الفضل، ولم يوصف بالعظمة والكِبر. فمجموع هذه الشواهد دالّ علي أنّ توريث الكتاب للمصطفين من هذه الأُمّة هو توريث من سنخ الوحي بالقرآن، أي لدنياً وإن لم يكن نبوّة، وأنّ هذا الفضل قد خصّ بصيغة الكِبر والعظمة بخلاف الفضل الذي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 101

اعطي لبقية النبيين والمرسلين فانه لم يوصف بذلك. ونظير الدلالة علي هذا الامتياز ما تقدّم في سورة الواقعة أنّهم في هذه الأُمّة، وهم أهل البيت عليهم السلام بنصّ آية التطهير، وهم الذين يمسّون القرآن المحفوظ في كِنْ «1» الكتاب المحفوظ، والمتنزّل من ذلك المقام الغيبي وهو المصحف الشريف الذي بين الدفّتين.

السادسة: إنّ في تقييد وصفهم (السابقون للخيرات) بإذن اللَّه، يتوافق ويتشاهد مع قوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» «2»

، الدالّة علي أنّ فعلهم وسبقهم للخيرات هو بإذنٍ من اللَّه، والمراد بالإذن الإيحاء الذي هو أعمّ من الوحي الاصطلاحي كالوحي التسديدي والإلهامي أي هو العلم اللدني لا الوحي النبوي.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 103

قراءات جديدة في آيات وحديث الغدير … ص: 103

القراءة الأُولي النبيّ وأهل بيته أولياء لدين اللَّه)

إنّ مفهوم الولاية قد انطبع في الأعصار الأخيرة بحدود ضيّقة تقتصر علي صلاحية الحكم السياسي بمصطلحاته الثلاثة: القضائية والتنفيذية والتشريعية، وكذلك الحال في مفهوم حقّ الطاعة. بينما مفهوم الولاية في أصل الوضع اللغوي والاستعمال القرآني والروائي أعمّ من ذلك، أي هو في معني يساوي الدين والديانة، كما يقتضيه التدبّر في الشواهد الآتية.

وعلي ضوء ذلك، فالولاية تمتدّ بامتداد سعة دائرة الدين وأبوابه، وبعبارة أُخري: الولاية تسنّم وتقلّد صلاحية كلّ شي ء بحسبه، ومن ثمّ يقال: ولاية التنفيذ وولاية القضاء وولاية التشريع

وولاية الإفتاء وولاية إبلاغ الرسالة، كما سيأتي في الاستعمال القرآني. وكذلك يقال: الولاية التكوينية، وهو القدرة علي التصرّفات بإذن اللَّه تعالي.

وفي لسان العرب: ولي في أسماء اللَّه تعالي؛ الولي هو الناصر، وقيل: المتولّي لأُمور العالم والخلائق والقائم بها، ومن أسمائه عزّ وجلّ: الوالي، وهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 104

قال ابن الأثير: وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم يطلق عليها اسم الوالي … وعن ابن السكيت: الوِلاية بالكسر- السلطان.

وقال سيبويه: الوَلاية بالفتح- المصدر، والوِلاية بالكسر- الاسم، مثل: الإمارة والنقابة؛ لأنّه اسم لما تولّيته وقمْت به.

وروي ابن سلام عن يونس، قال: المولي له مواضع في كلام العرب: منها المولي في الدين وهو الوليّ، وذلك قوله تعالي: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَامَوْلَي لَهُمْ» «1»

، أي لا وليّ لهم، ومنه قول سيّدنا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«من كنت مولاه فعليّ مولاه» أي من كنت وليّه وروي أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «من تولّاني فليتولّي عليّاً»، معناه من نصرني فلينصره «2».

وقال الفرّاء في قوله تعالي: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» «3»

، أي تولّيتم أُمور الناس والخطاب لقريش- قال الزجّاج والفرّاء: إن تُوُلّيتُم أي وَلِيَكُم بنو هاشم «4»، وقوله صلي الله عليه و آله: «اللهمّ والِ من والاه» أي أحبب من أحبّه وانصر من نصره.

ثمّ قال: وقد تكرّر ذكر المولي في الحديث، وهو اسم يقع علي جماعة كثيرة، فهو الربّ والمالك والسيّد والمنعم والمعتق والناصر والمحبّ والتابع والجارّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 105

وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمُعْتَق والمنعم عليه، قال: وأكثرها قد جاءت في الحديث، فأضاف كلّ واحد

لما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه.

قالوا: وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والوِلاية بالكسر في الإمارة، والولاء في المُعتق الموالاة من والي القوم.

قال ابن الأثير: وقوله صلي الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» يحمل علي أكثر الأسماء المذكورة. وقال الشافعي: يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالي: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَامَوْلَي لَهُمْ» «1»

. قال: وقول عمر لعليّ: أصبحت مولي كلّ مؤمن، أي وليّ كلّ مؤمن «2».

وقال النيسابوري في وجوه القرآن: إنّ الولي علي ثمانية أوجه، وذكر أنّ أحدها بمعني الآلهة، كقوله تعالي: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ» «3»

، وقوله تعالي: «أَمِ اتَّخَذَوُا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» «4». «5»

هذا وإنّما أطلنا في نقل كلام اللغويين روماً في إثبات أنّ معني الولاية معنيً عام إذا أُضيف إلي الدين شمل كلّ من الإمارة وبقية الصلاحيات والمناصب في الدين.

وبعبارة أُخري: إنّ للولاية معنيً جامع وأصل فارد يستعمل في الموارد العديدة، وهو الذي تنبّه إليه ابن الأثير فيما تقدّم من قوله: (إنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل)، أي أنّ المعني الجامع مفاده التمكين والقدرة علي التصرّف، فإذا تقرّر ذلك يتبيّن من خلال ما مضي وسيأتي من شواهد عديدة أنّ الولاية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 106

المجعولة في الأدلّة لعليّ عليه السلام والأئمّة عليهم السلام هي ولاية كلّ الدين، بما في ذلك من الإمارة والحكومة والقيام بالأُمور السياسية في النظام الاجتماعي وكذا الولاية في التشريع والقيمومة علي الدين ووساطتهم في التدين بالدين، وغير ذلك من الشؤون.

وهذه الآية ملحمة قرآنية لقريش بأنّها ستتولّي الأُمور وتكون سيرتها ما

ذكرته الآية. وفي القراءة الثانية إن تولّت بنو هاشم الأُمور ستعاديهم قريش فتضمّنت الملحمة القرآنية نبوءة مستقبلية قد جاء بتصديقها ما وقع في الصدر الأوّل للأُمّة الإسلامية.

فالولاية من معاني الولاية في جميع أبواب الدين، ومن تلك الأبواب الإبلاغ عن اللَّه تعالي ممّا أبلغه النبيّ صلي الله عليه و آله عن اللَّه لهم خاصّة، سواء في نشأة حياته الدنيا أو حياته الأُخري، ولا زال النبيّ صلي الله عليه و آله يبلّغ الإمام القائم بالأمر (عج) عن اللَّه تعالي، وهذه هي السفارة الإلهية وإن لم تكن من سنخ النبوّة أي السبب المتّصل بين الأرض والسماء، قال الشيخ الصدوق في الاعتقادات: وقد فوّض اللَّه تعالي إلي نبيّه صلي الله عليه و آله أمر دينه، فقال عزّوجلّ: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

، وقد فوّض ذلك إلي الأئمّة عليهم السلام. «2»

فالولاية الواردة لهم عليهم السلام في الآيات والأحاديث كحديث الغدير- هي ولاية كلّ الدين عدا النبوّة، فكلّ ما كان للنبيّ صلي الله عليه و آله فهو ثابت لهم، وكذا وساطتهم عن اللَّه، غاية الأمر بتوسّط النبيّ صلي الله عليه و آله.

وليست ولايتهم مقصورة علي الولاية السياسية والرئاسة وقيادة النظام الاجتماعي، وإن كانت هذه الولاية إحدي شعب ولايتهم في الدين، وبعبارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 107

أُخري، إنّ الإمامة كما تقرّر في معناها ليست مقتصرة علي الرئاسة العامّة وحفظ الدين في جانب الحاكمية والتدبير، بل حدودها ومعناها أوسع من ذلك بنحوٍ يتناول الهداية التشريعية الارائية في طول النبوّة والهداية الإيصالية للنفوس إلي الكمالات الحقيقية بتدبير ملكوتي

وكلّ من الهدايتين هي من موقع تكويني لنفس وروح الإمام المعصوم، نظير ما ذكره المتكلّمون في تعريف النبوّة والنبيّ من أنّها كون النفس البشرية

بحيث تسمع كلام اللَّه، أي أنّه مقام تكويني للروح النبويّة، فكذلك الحال في الإمامة فإنّها مقام تكويني كمالي وإن اختلفت سنخاً عن النبوّة، ويتقرّر من ذلك أنّ الولاية بمعناها الوسيع الشامل تتطابق «1» مع ماهية الإمامة.

ويجدر هاهنا الإشارة إلي جملة من الشواهد علي سعة معني الولاية بالإضافة إلي الدين وأبوابه ومقاماته:

أوّلًا: قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَي اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا» «2»

، مفاد الآية يقرّر أنّ الدعوة إلي اللَّه وهي الهداية الأرائية هي صلاحية وولاية يعطيها اللَّه عزّوجلّ، وهذا مؤدّي قوله (بإذنه)؛ إذ إعطاء الإذن إنّما هو في حقل الولاية والملكية والقدرة والسلطنة. فيظهر من الآية أنّ إحدي محطّات الولاية وشعبها هي الدعوة إلي اللَّه والهداية التشريعية، ونظير هذا المفاد قوله تعالي: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُم مِنْهُ حَرَاماً وَحَلَالًا قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «3»

.حيث أوضحت الآية التقابل بين الفريّة من جانب والفتيا بالإذن من جانب

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 108

آخر، مع أنّ المتبادر في بدو النظر أنّ المقابل للافتراء هو الصدق والمقابل للفتيا بالإذن هو الفتيا بغير إذن، فجَعْل المقابلة في الآية بين الافتراء والفتيا بالإذن يقتضي كون التحليل والتحريم وبيان الأحكام الإلهية متوقّفاً علي الإذن ممّن له الولاية، وأنّها أُمور مولوية، وأنّ جهة التشريع من شعب ولايته تعالي.

وثانياً: إنّ الجعل التشريعي قوامه بالمولوية ومولوية المولي؛ لأنّ الحكم التكليفي قوامه بالطلب المولوي، والمولوية هي ولاية الباري تعالي، كما أنّ قوام الحكم الوضعي هو بالحكم التكليفي، فيكون قوام الأحكام التشريعية بولاية المولي، والتقنين ينقسم إلي سنخين من الحكم الوضعي والتكليفي، أي ينقسم التقنين إلي قانون يقرّر المعاني كالملكية والحقوق والعقود، وإلي قانون

فيه اقتضاء الفعل والإلزام به، وكلّ من الحكمين أصيل في التشريع إلّاأنّ مآل الحكم الوضعي في التشريع إلي الحكم التكليفي، ولذلك أفرط بعض علماء الأُصول في نفي تأصيل الحكم الوضعي في التشريع، وقالوا إنّه منتزع وتابع لحدود الحكم التكليفي.

وعلي أيّ تقدير، فإنّ الحكم الوضعي الذي هو تقرير لمعاني الأشياء كمؤدّي اعتباري قانوني، إنّما يشرّع ويقنّن لتنظيم أفعال أفراد المجتمع، أي فيؤول الحكم الوضعي وغايته الحكم التكليفي الذي يتعلّق بفعل الفرد مباشرةً، هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أُخري فإنّ قوام الحكم التكليفي هو بمولوية الشارع، والمولوية قوامها بولاية المولي وحقّ الطاعة له، وبذلك يكون التشريع وصلاحيته وليدة ولاية المشرّع والمقنّن علي المتدين لذلك الشرع والمتّبع لذلك التقنين.

ويعضد ذلك أنّ فقهاء الشريعة وفقهاء القانون الوضعي في استنباطهم وقراءتهم للنصوص الشرعية والقانونية، إنّما يستنبطون الحكم ولو كان وضعياً فيما إذا كان الشارع يعمل جهة المولوية في إنشائه للحكم، أي لا يكون بداعي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 109

الإرشاد، أي لابدّ أن يكون المقنّن من جهة سيادته وسيادة القانون يقرّر ذلك النصّ القانوني لا من باب النصيحة، والإرشاد منه، وهذا ممّا يدلّل علي أنّ الحكم الوضعي في تشريعه يستند إلي ولاية الشارع وسيادته، وبالتالي يتّضح لنا أنّ الولاية تتشعّب إلي الولاية التشريعية كما تتشعّب إلي ولاية القضاء والتنفيذ والتدبير.

ثالثاً: إنّ مفهوم الدين والديانة هو الخضوع بالطاعة في اتّجاه من له الولاية، ومن ثمّ كانت الديانة هي الطاعة، والمطاع هو الدائن، وكذلك في مفهوم الإسلام الذي هو من التسليم والخضوع. ومن ذلك يتقرّر المطلوب من أنّ ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، أي وجوب طاعتهم تتّسع لكلّ حدود ودائرة الدين والديانة في طول وتبع ولاية اللَّه تعالي وطاعته، ومن

ثمّ تتبلور القراءة الصحيحة لقوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «2»

.بأنّ وجوب طاعة الرسول صلي الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام وولايتهم ليست مقتصرة علي الحاكمية السياسية، بل هي ولاية وقيمومة علي هذا الدين، كما هو الحال في وجوب طاعة اللَّه وولايته، حيث إنّها غير مقتصرة علي الحاكمية السياسية والقضائية والتشريع السياسي، بل هي ولاية عامّة بحدود سعة الدين والديانة، حتّي في الأبواب العبادية، بمعني أنّ رسم العبادة للَّه تعالي هو بتوسّط سنن وأوامر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 110

نبوية وسنن وأوامر ولوية كما هي مشتملة علي فرائض وأوامر إلهية فقصد الأمر المأخوذ في العبادة هو إمتثال الأمر الشامل للأقسام الثلاثة من الأوامر، فبطاعتهم يُعبد اللَّه تعالي.

وإلي ذلك يشير ما رواه الكليني والمفيد والطوسي في الصحيح عن محمّد بن زيد الطبري، قال: «كنت قائماً علي رأس الرضا عليّ بن موسي عليه السلام بخراسان وعنده جماعة من بني هاشم منهم إسحاق بن العبّاس بن موسي، فقال له عليه السلام: يا إسحاق، بلغني أنّكم تقولون: إنّا نقول: إنّ الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما قلته قطّ ولا سمعته من أحد من آبائي، ولا بلغني عن أحدٍ منهم قاله، لكنّا نقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب» «1»

.وما ورد في الروايات من زيارة الإمام الرضا عليه السلام:

«اللّهمّ صلِّ

علي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عبدك وأخي رسولك الذي انتجبته بعلمك وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدليل علي من بعثته برسالاتك، وديّان الدين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك، والمهيمن علي ذلك كلّه» «2»

.وورد وصف ديان الدين في الصلاة علي الحسنين وعلي علي بن الحسين في الزيارة المزبورة التي ورد فيها: «اللهمّ صلِّ علي عليّ ابن موسي الرضا المرتضي عبدك ووليّ دينك» «3»

، كما ورد أيضاً في زيارة آل ياسين في الناحية «السلام عليك يا باب اللَّه وديّان دينه» «4»

، ومنها قوله تعالي تلقيناً لنبيّه صلي الله عليه و آله: «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 111

الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ» «1»

، فإنّ إنزال الكتاب وإن كان وصفاً لاسم الجلالة، إلّا أنّ الوصف ذكر للمناسبة مع عنوان الولي، كما هو مطّرد في الاستعمال والأدب القرآني، وإلّا لذكر وصف آخر غير إنزال الكتاب.

رابعاً: ما يظهر من دلالة العديد من أدلّة ولايتهم عليهم السلام أنّها قيمومة علي مجمل الدين في طول وتبع قيمومة الرسول وفي طول قيمومة وتبع اللَّه عزّوجلّ، فالولاية علي الدين هي بالأصالة للَّه عزّوجلّ، كما قال تعالي: «أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» «2»

، وقوله تعالي: «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» «3»

، وقوله تعالي: «الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «4»

، فإن خلوص الدين للَّه من قبل العبد يقتضي أن لا يخضع العبد لغير اللَّه، ولا يدين بولاية وطاعة غير اللَّه تعالي، أي يقتضي أنّ الولاية والطاعة في الدين في كلّ شعبها مبدأها ومنتهاها وأصلها وغايتها وأقسامها واختلاف ضروبها هي للَّه تعالي:

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْكَافِرِينَ» «5»

، و: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ» «6»

، وغيرها من الآيات المتظافرة الدالّة علي ولاية الرسول في قيمومته علي

دين اللَّه التابع لولاية اللَّه في كلّ شعبها وضروبها وأقسامها، فهي ثابتة للرسول صلي الله عليه و آله تبعاً لولاية اللَّه، سواء في ولاية التشريع والحكم والقضاء والتصرّف والبيان والترخيص والنسخ والإقرار وأنّ طاعتهم باب العبادة للَّه تعالي …

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 112

وغيرها من ضروب أنماط الولاية وحقّ الطاعة في أبواب الدين الكثيرة المتعدّدة، التي يكون ولاية الحكم السياسي بقواه الثلاثة باباً من أبوابه؛ إذ الدين دائرته وملاكاته أوسع من النشأتين فضلًا عن أن ينحصر بأحكام النظام السياسي في النشأة الدنيا.

فتحصّل: أنّ ولايتهم الواردة في الأدلّة المتعدّدة هي الولاية علي كلّ الدين في جميع أبوابه وروافده، وهذا أصل من أُصول الشريعة في المعرفة تنشعب منه قواعد عديدة من المعارف.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 113

توحيد اللَّه في العبادة بولايتهم وطاعتهم … ص: 113

اشارة

قال تعالي: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَاتَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» «1»

، فأطلق علي الطاعة للشيطان أنّه عبادة له، وهذا يقتضي أنّ عبادته تعالي لا تتقوّم حقيقة بمجرّد السجود والركوع وأشكال النسك، بل لانطوائها واحتوائها وتضمّنها لطاعة اللَّه فحينئذٍ تكون عبادة له تعالي، وهذا الاستعمال للعبادة في الطاعة يقتضيه المعني اللغوي؛ لأنّ قوام العبادة بالخضوع.

والخضوع هو الطوعانية والأئتمار والانقياد لإرادته تعالي، فذلك هو روح وجوهر العبادة، وأمّا أشكال النسك والطقوس العبادية فهي قشر ولباس وثوب وبدن العبادة، وأمّا اللباب والروح فهي الطاعة وعبودية الانقياد والخضوع والانقهار أمام إرادته تعالي والتسليم والضعة والإخبات لمشيئته تعالي، فإنّما صارت العبادة النسك والطقوس- عبادة بالطاعة.

ونظير ذلك قوله تعالي: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» «2»

، فأطلق تعالي علي طاعة الجنّ وتولّيهم

وموالاتهم عبادة لهم وقال

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 114

تعالي: «وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» «1»

، أي الذين يعبدون الطاغوت، وقد فسّر بطاعتهم للأحبار والطاغوت كلّ من أطيع في معصية اللَّه، ويعضد هذا التفسير قوله تعالي: «إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» «3»

، وفي صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه تعالي: «إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال: «واللَّه ما صلّوا لهم ولا صاموا ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم» «4»

.وفي رواية أُخري، قال عليه السلام: «واللَّه ما دعوهم إلي عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون» «5»

.وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: «… وأمّا قوله أحبارهم ورهبانهم فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم واتّبعوا ما أمروهم به ودانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم وتركهم أمر اللَّه وكتبه ورسله، فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتّبعوه وأطاعوهم وعصوا اللَّه، وإنّما ذُكر هذا في كتابنا لكي يُتّعظ به» «6»

.وروي الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وفي عنقي صليب، فقال لي: يا عدي اطرح هذا الرق (الوثن) من عنقك. قال: فطرحته ثمّ انتهيت إليه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 115

وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: «إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» حتّي فرغ منها، فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرّمون ما أحلّه اللَّه فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم اللَّه فتستحلونه؟ قال: فقلت: بلي. قال: فتلك عبادتهم» «1»

.فإذا تقرّر ذلك يتبيّن أنّ

قوام العبادة بالطاعة، وهي روحها وجوهرها، ولا ريب أنّ الطاعة للَّه لا تُعرف إلّابدلالة منه عزّوجلّ، إذ لا يصيب العقل البشري مواطن رضا اللَّه وإرادته ومشيئته، ولا يميزها عن مواطن سخطه ونقمته، إلّاالنزر القليل، ممّا تقضي به الفطرة البشرية من المحاسن وتدركه من القبائح، فمن ثمّ تتبلور ضرورة وجود الدليل علي طاعته والهادي إلي إرادته ومشيئته، ومن ثمّ كانت بعثة الأنبياء ونَصبْ الأوصياء من بعدهم ضرورة ملحّة للوقوف علي مواطن طاعة اللَّه.

وبمعرفة طاعة اللَّه يصيب المسلم والمؤمن حقيقة العبادة، وبجهله بطاعة اللَّه يخفق عن إقامة عبادته، فالتوحيد في العبادة هو بالطاعة التي هي الركن الركين، وطاعته تعالي لا طريق لها إلّابطاعة نبيّه ورسوله وحججه المنصوبين من قِبله خلفاء في أرضه.

المنهج السلفي وعبادة إبليس: … ص: 115

أشار القرآن الكريم إلي هذه الحقيقة في استعراضه لقصّة إبليس مع آدم في أكثر من سبع سور «2»، إذ قال تعالي في سورة ص: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 116

وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلَي يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ* قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ* قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ* لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» «1»

.وقال في سورة البقرة: «إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «2»

.قد بيّنت الآيات الكريمة أنّ الخضوع والانقياد لآدم توحيد للَّه في العبادة،

لأنّه خليفة اللَّه، وأنّ ترك الانقياد له شرك وكفر في العبادة وإن أتي بصورة السجود للَّه كما ورد في الأحاديث.

ففي الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: «ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين؛ ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: «إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ»، اعترضته الحمية فافتخر علي آدم بخلقه وتعصّب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين … وكان قد عبد اللَّه ستّة آلاف سنة، لا يُدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة من كبرٍ ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم علي اللَّه بمثل معصيته؟» «3»

.وكالذي رواه الراوندي بإسناده إلي الصدوق بسنده الصحيح: «عن هشام، عن الصادق عليه السلام قال: أُمر إبليس بالسجود لآدم، فقال: يا رب، وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها. قال اللَّه جلّ جلاله: إنّي أُحبّ أن أُطاع من حيث أُريد» «4»

. ورواه القمّي في تفسيره بسنده، إلّاأنّ فيها: «لا حاجة لي إلي عبادتك؛ إنّما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 117

أُريد أن أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد» «1»

.وكذا في تفسير علي بن إبراهيم كما نقله المجلسي في البحار. «2»

وروي الطبرسي في الاحتجاج في جواب مسائل الزنديق، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنّه سُئل: «أيصلح السجود لغير اللَّه؟ قال: لا. قال: فكيف أمر اللَّه الملائكة بالسجود؟

فقال: إن من سجد بأمر اللَّه فقد سجد للَّه فكان سجوده للَّه؛ إذ كان عن أمر اللَّه. ثمّ قال عليه السلام:

فأمّا إبليس فعبدٌ خلقه..» «3»

.وروي الشوكاني في فتح القدير، قال: «وقد أخرج ابن أبي حاتم عن

ابن عبّاس، قال: كانت السجدة لآدم والطاعة للَّه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الحسن، قال: سجدوا كرامة من اللَّه أكرم بها آدم. وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني، قال: إنّ اللَّه جعل آدم كالكعبة» «4»

.وقال تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ» «5»

.والآية الكريمة من ملاحم الآيات في تبيان حقيقة العبادة والقبلة والصلاة، حيث بيّن تعالي أنّ غاية جعل القبلة السابقة في الصلاة هو اتّباع الرسول وطاعته، وليحصل التمحيص بين المطيع وبين من ينقلب علي عقبيه، ولا يخفي ما لصعوبة هذا الامتحان، حيث تمّ تبديل القبلة من البيت الحرام إلي بيت المقدس، أي إلي قبلة اليهود والنصاري، وشُرّعت بعدما كان البيت الحرام في بدء الشريعة النبوية أوائل البعثة في مكّة- هو القبلة، وهو من الخطورة بمكان؛ حيث إنّ القبلة في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 118

العبادة والدين من النواميس العظيمة.

ولا سيما وأنّ قبلة البيت الحرام قد توارثتها قريش من ملّة إبراهيم وإسماعيل الحنيف، وكان البيت الحرام هو محور النسك والمناسك المختلفة العبادية في الصلاة والطواف والذبائح والقرابين، وتبديل القبلة حينئذٍ- التي هي معلم رئيسي في الدين يدلّ علي مدي موقعية الرسول وولايته وطاعته في الديانة، وأنّ الديانة وطريق العبودية للَّه تعالي هو باتّباع وطاعة الرسول صلي الله عليه و آله، وأنّ قوام القبلة والعبادة باتّباع الرسول وطاعته، فكانت محنة هذا الامتحان عظيمة جدّاً ليتقرّر معني الديانة والدين.

ومن ثمّ قال تعالي: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ» «1»

، وقال تعالي:

«أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» «2»

، وقال تعالي:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» «3»

.فتبيّن من الآيات: إنّ روح العبادة ولبّ التوجّه في القبلة إلي وجه اللَّه، هو الاتّباع والطاعة للنبيّ صلي الله عليه و آله، وإنّ حقيقة عبادته تعالي كامنة في طريق طاعة واتّباع

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 119

النبيّ صلي الله عليه و آله، لا مخالفته والجرأة عليه.

فتبيّن من ذلك: إنّ جوهر العبادة ليس بشكل وهيئة رسوم العبادة، بل جوهر العبادة الطاعة والطوعانية والخضوع والانقياد؛ إذ لو كان مدار التوحيد في العبادة علي نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالي ونفي الوسيلة، لكان إبليس إمام الموحّدين، ولكان قدوة الموحّدين في نفي العقيدة الشركية في العبادة؛ لأنّه عرض علي اللَّه أن يعبده عبادة من دون واسطة خليفة اللَّه آدم، وهذا العرض بحسب الصورة الظاهرة- أبلغ في دعاء اللَّه وحده بلا شريك،

بينما نري الباري تعالي قد حكم بأنّ ما فعله إبليس بنفي الواسطة الإلهية كفر، بل وحكم بأنّ رغبة إبليس في عبادته مباشرةً شرك، وقد فسّر أمير المؤمنين وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ذلك: بأنّ رفض إبليس للواسطة الإلهية وطلبه للسجود مباشرةً للَّه من دون الانقياد لآدم عليه السلام ينطوي في الحقيقة علي تكبّر علي اللَّه؛ لأنّه لم يسلّم لربّ العزّة في قضائه وأمره.

والكبر: انفساخ عن العبودية وبروز لفرعونية الذات، فرأي في نفسه الاستقلال عن

باريه فردّ عليه أمره، ورأي تقدّم رأيه علي حكم اللَّه وحكمته، وكلّ ذلك ينطوي علي إنكار مقامات ربوبيته تعالي وصفاته الكمالية بنحو مستبطن، فاعتدّ إبليس بذاته بأنّ له شأن الارتباط والتلقّي مباشرةً عن الباري، وهذا يؤول إلي الاستخفاف بعلوّ مقامات الربوبية وإنكار عزّ الشؤون الإلهية.

وسنّة إبليس هذه قد ارتكبنها أغلب الأُمم التي كفرت بأنبيائها وأوصيائها، كما قال تعالي: «فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ* كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ* بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِي ءٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَي صُحُفًا مُنَشَّرَةً» «1»

، فبيّن أنّ سبب إنكارهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 120

لدعوات الأنبياء استطالتهم ليكون كلّ واحد منهم نبيّاً، فالتكبّر والاستعلاء علي الواسطة الإلهية ينطوي علي الكفر بالمقامات الإلهية، وبالتالي إلي جحد وإباء للواسطة الإلهية.

وقال تعالي أيضاً: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَي إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا» «1»

، فدعاوي نفي الوسائط الإلهية والوسيلة إليه تعالي تحت ذريعة الارتباط مباشرةً به، هي هتك للحجب الإلهية وتجرّي علي حرمات الشؤون الإلهية، وهو ناشئ حقيقةً- عن عدم التسليم بعظمة الصفات الإلهية، وعدم التوحيد في المواطن المختلفة. فالإباء والرفض للتوجّه إلي الواسطة والوسيلة المنصوبة من قبله تعالي تحت شعار لزوم الطلب مباشرة من اللَّه لا من الواسطة ولا التوبة الي الواسطة، ينطوي علي التكبّر الإبليسي والاستخفاف بالمقام الربوبيّ.

ومن ثمّ نجد أنّ القرآن الكريم يشير إلي أنّ شرك عبدة الأوثان ناشئ من اختيار الوثنيين تلك العبادة من عند أنفسهم دون إذنٍ من اللَّه تعالي حكم منه، لا من جهة ضرورة الواسطة والوسيلة بين المخلوق الذي ليس من المقرّبين إلي الساحة الربوبية وبين الخالق؛ فإنّ الواسطة والوسيلة ضرورة تكوينية وسنّة إلهية، بل شرك الوثنيين وعبدة الأوثان هو من جهة إقتراحية الواسطة

والوسيلة، أي كون تعيينها من قبل أنفسهم، والخلط بين الأمرين غالط به الكثير باب التوحيد، والوجه الذي إليه يتوجّه الأولياء، فشرك الوثنيين في الواسطة هو من حيث: هم يريدون ويختارون لا من حيث: يريد اللَّه ويختار، ومن حيث هم يشاؤن لا من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 121

حيث يشاء اللَّه.

فيجعلون لأنفسهم حقّ التصرّف في تحديد العلاقة بينهم وبين ربّهم، ويجعلون لأنفسهم السلطان المقدّم علي سلطانه تعالي ومن ثمّ يجعلون أنفسهم أرباباً بدل أن يكونوا عبيداً له تعالي.

فمن ذلك يتبيّن أنّ الوثنية وشرك عبدة الأصنام ينطوي علي الاستكبار والكفر الذي هو سنّه إبليس اللعين، لا من جهة ضرورة أصل الواسطة والوسيلة، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» «1»

، وقال تعالي: «أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» «2»

، فالآيتان يشير مفادهما إلي أنّ المحذور، وهو عدم إلاذن وهو السلطان من اللَّه في تعيين مصداق الواسطة والوسيلة، لا كون المحذور في ضرورة الوسيلة. وكذا قوله تعالي علي لسان إبراهيم الحنيف في محاجّته لعبدة الأصنام: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «3»

، وقوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «4»

، وقوله تعالي في مشركي قريش في معركة أُحد: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَي الظَّالِمِينَ» «5»

، وقوله تعالي

علي لسان يوسف النبيّ عليه السلام: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» «6»

، قابلت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 122

بين توحيد الحكم وتوحيد العبادة من جهة، وبين عبادة الأرباب من دون اللَّه من جهةٍ أُخري؛ لكونها بدون سلطان وأمر منه تعالي، ممّا يقتضي أنّ مدار الشرك في العبادة في قبال التوحيد في العبادة يدوران مدار وجود الأمر الإلهي وعدمه.

فتؤكّد هذه الآيات علي أنّ شرك الوثنيين وعبدة الأصنام ليس بسبب وجود الواسطة بين البشر والباري، ولا بسبب وجود الوسيلة، بل إنّما شرك الوثنيين هو بسبب استقلالهم باتّخاذ الواسطة من عند أنفسهم، وتقديم اختيارهم وإرادتهم علي اختيار اللَّه وإرادته. ففي الآيات تقرير لضرورة الوسيلة والواسطة، فأمّا الوثنيون فأشركوا إرادتهم ومشيئتهم مع إرادة اللَّه ومشيئته، ونازعوه في سلطانه.

ومن ثمّ تكرّر التعبير في هذه السور والآيات لعنوان عدم السلطان لهم بذلك من اللَّه، فجعلوا لأنفسهم سلطاناً يشاركون فيه سلطان اللَّه في تعيين الواسطة والباب إليه تعالي، كما فعل إبليس عندما اقترح علي اللَّه نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالي، مقابل أن يعبده كما هو يريد لا كما يريد اللَّه وكان هذا حال مشركي العرب وعبدة الأصنام الذين عبدوا اللَّه من حيث يريدون لا من حيث أراد اللَّه.

فالعقيدة الشركية ليست في الانقياد لواسطة الباري، وإنّما في إشراك إرادة العبد في العبادة مع إرادة المعبود، ومن ثمّ كان سجود الملائكة لخليفة اللَّه آدم توحيد، وإباء إبليس عن الانقياد للواسطة شرك وكفر؛ لأنّ سجود الملائكة لآدم كان بأمرٍ من

اللَّه وسلطانٍ منه، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير سجود الملائكة له: «إنّ من سجد بأمر اللَّه فقد سجد للَّه فكان سجوده للَّه إذ كان عن أمر اللَّه» «1»

.فالشرك يدور مدار إشراك العبد سلطان نفسه في العبادة وكيفيتها مع سلطان الباري، لا في وجود الواسطة من حيث هي واسطة والوسيلة من حيث هي وسيلة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 123

كيف! وهي ضرورة، كما أنّ مدار التوحيد هو في التسليم لأمر اللَّه وسلطانه ولو عبر واسطة ووسيلة، لا في نفي الواسطة والحجاب والباب في البين.

ولك أن تقول: إنّ ما قرّره علماء الكلام والمعرفة من العلوم الأُخري في تعريف الشرك بأنّه الخضوع لغير اللَّه بما أنّ الخاضع عبد والمخضوع له ربّ، هو الآخر يرجع إلي تحديد سلطان اللَّه والقول بسلطان الغير وتقديمه علي سلطان اللَّه.

وبعبارة أُخري: إنّ الشرك باعتباره من أقسام الكفر يقابل التوحيد في مقامات عديدة، فكما أنّ التوحيد يُقرّر في مقام الذات الإلهية كذلك الشرك في مقام الذات- يكون عبارة عن القول بتعدّد الذات الإلهية الواجبية.

فكما أنّ التوحيد في الصفات، هو عبارة عن وحدة الصفات الكمالية مع الذات الأزلية، وأنّ تلك الصفات الكمالية الواجبية لا يتّصف بها أحد غير الباري، فكذلك الشرك في الصفات يُقرّر بتعدّد وتغاير ذوات الصفات عن الذات الإلهية، أو باتّصاف غيره تعالي بتلك الصفات. وكما يُقرّر التوحيد أيضاً في الأفعال بأن تُسند الأفعال إلي الباري تعالي وأنّ لا مؤثّر في الوجود إلّاهو من دون استلزام ذلك الجبر في أفعال المخلوقين، فكذلك الشرك في الأفعال يُقرّر بأسناد الأفعال لغيره بنحو الاستقلال.

كذلك التوحيد في العبادة، هو الخضوع له تعالي بما أنّه واجب الوجود وأنّ له حقّ الطاعة وسلطان الولاية، والشرك في العبادة يُقرّر بالخضوع لغير

اللَّه باعتبار أنّ الغير مستقلّ الذات أو الفعل أو مستقلّ الولاية والسلطان ومستقلّ في حقّ الطاعة، فالشرك في العبادة لا ينحصر في النمط الأوّل أي الشرك في الذات- كما قد يوهمه التعريف الدارج.

بل أنّ مشركي العرب في الجزيرة وعبدة الأصنام من غيرهم لا يعتقدون في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 124

الأصنام والأوثان الاستقلال في وجود ذواتها ولا أزليتها ولا الأرواح الكلّية المزعوم تعلّقها في الأصنام، وإنّما شركهم كما تقدّم- لقولهم بحقّ الطاعة لتلك الأصنام والأرواح من دون إذنٍ ولا أمرٍ من اللَّه، ويشير إلي ذلك قوله تعالي:

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ زُلْفَي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «1»

، فاتّضح أنّ الشرك في العبادة لا يتحقّق بمجرّد الخضوع لغير اللَّه تعالي، بل فيما كان بغير أمر اللَّه وسلطانه، كما أنّ التوحيد في العبادة لا يتحقّق بمجرّد صورة الخضوع للَّه تعالي، بل إنّما يتحقّق فيما كان بأمر اللَّه وسلطانه.

فالشرك في العبادة يدور مدار معني العبودية من الخضوع والطوعانية لولاية وسلطان المعبود، فإذا جُعل الخضوع لمبدأ سلطان غير اللَّه فيقع الشرك في العبادة، فتعريف العبادة التي هي عبودية التأليه وربوبية المعبود، كما أشار إلي ذلك الشيخ الكبير كاشف الغطاء في رسالته منهج الرشاد لمن أراد السداد: (إنّها الامتثال والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بواسطة أمر غيره» «2» أي يستوجب الطاعة بذاته. ولك أن تقول بأنّها الطاعة والامتثال والخضوع والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بأمر غيره، أي المستوجب للولاية بذاته لا بتولية غيره، فالعبادة هي الطوعانية من العابد للمعبود بما له من ولاية ذاتية.

وهذا هو المعني المصطلح لعبادة التأليه في

قبال عبادة الخدمة وعبادة الطاعة بأمر الغير.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 125

صورية الطاعات بدون الولاية … ص: 125

الإيمان شرط في قبول الأعمال … ص: 125

إنّ قبول الأعمال والجزاء عليها هي من السنن الإلهية التي تتبع شروطاً تكوينية خاصّة، والشرط المهم في ذلك هو الإيمان؛ لأنّ العمل إذا لم ينل النور والصفاء عن طريق الإيمان والنية السليمة فهو سراب بقيعة، قال تعالي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّي إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «1»

، فالآية تقرّر أنّ الأعمال مهما بلغت من العظمة- التي يراها الناس- إذا لم تقترن بالإيمان باللَّه فهي جميعاً عبث وهباء وخيال كالسراب.

وقال تعالي في آية أخري: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَايَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَي شَيْ ءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ» «2»

، وقال تعالي: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «3»

تشير إلي أنّ المجازات علي الأعمال في الآخرة مشروط بالبقاء علي الإيمان، وقال تعالي: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «4»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 126

فهذه الآيات الكريمة تبين لنا الموقف من قبول الأعمال أو رفضها من الباري عزّ وجلّ. ونستطيع أن نعبّر أنّه يشترط في قبول الأعمال الحُسن الفاعلي؛ لأنّ كلّ عمل له بعدان أو حيثيتان في جهات الحسن والقبح، فتارةً يُلحظ العمل بما هو موجود في الخارج فيحكم عليه بالحسن أو القبح، وتارةً يُلحظ العمل من حيث صدوره من الفاعل وبما ينطوي عليه من دوافع لذلك العمل.

كما جاء في الحديث النبويّ: «إنّما الأعمال بالنيات»، فوزن وقوام الأعمال والعمل هو بالنيات والنية، والثواب والعقاب علي الأعمال يلحظ فيه جانب الحسن الفاعلي، قال تعالي: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» «1»

، فلم يقل عزّ وجلّ: (أكثركم عملًا) حتّي يكون المدار علي الحسن الفعلي، بل قال «أيّكم أحسنُ عَملًا»؛ وإلّا لو كان الحسن الفعلي هو المدار لعُوقب المجبور والمضطرّ علي صدور المحرّم أو ترك الواجب.

ولهذا يُلاحظ أنّ بعض الأعمال قد أعطي اللَّه سبحانه وتعالي الثواب عليها لبعض الناس ولم يعط لآخرين قاموا بأعمال هي في الظاهر أكثر، كما في تصدّق الخاتم من أمير المؤمنين عليه السلام إلي الفقير حال الركوع فنزلت بحقّه الآية المباركة:

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «2»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنْكُمْ …» «3»

، فإنّ القيمة ليست للخاتم التي بسببها نزلت الآية، بل من جهة قيمة خلوص العمل، وهكذا قضية تصدّق الزهراء عليها السلام بأقراص الشعير.

وهكذا الأعمال تقاس بهذا المنظار، فالزكاة مع الرياء، أو الجهاد وفتح البلدان

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 127

بغير خلوص هو سراب يصبّ في نزوات الهوي وجمع الثروات والتوسّع في اللذائذ والشهوات.

فالإيمان باللَّه واليوم الآخر شرط أساسي في قبول الأعمال؛ لأنّ الحسن الفاعلي كما قلنا- لا يمكن أن يتحقّق بدون عقيدة الإيمان؛ لأنّ العمل بدون الإيمان باللَّه سبحانه وتعالي لا يكون إليه، وإنّما يكون للأنا وللذات ونزعاتها السفلية، وهو فارغ عن الغاية التي يريدها اللَّه من الأعمال؛ فإنّ روح الأعمال هو الإخلاص، «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» «1»

.أمّا العمل بدون الخلوص فهو في حقيقته تمرّد وتكبّر علي الباري، كما هي أعمال إبليس التي أوصلته إلي الهلاك والكفر وحبط الأعمال.

فقصّة إبليس الواردة في القرآن الكريم نموذج علي ما آلت إليه أعماله التي هي في ظاهرها منتهي العبودية، فإنّه لعنه اللَّه- كان قد سجد سجدة واحدة ستّة

آلاف سنة، وكان يقرّ للَّه بالوحدانية، وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وكان يقرّ بيوم المعاد وبنبوّة آدم بنصّ القرآن الكريم: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «2»

و «قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «3»

، فهذا اعتراف وإقرار منه باللَّه تعالي وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وأمّا إقراره بيوم المعاد والآخرة: «قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «4»

، ولكن لم ينفعه كلّ ذلك العمل وذلك الإقرار، صار لعيناً مرجوماً كافراً، «وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «5»

.وعليه، فالإيمان شرط في قبول الأعمال، وهذه حقيقة مسلّمة عند جميع المسلمين، إنّما الكلام يقع حول أجزاء الإيمان، فهل تقتصر علي التوحيد والنبوّة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 128

والمعاد؟ أم تشمل معرفة الإمام والولاية له وممّا يقرّر ذلك؟ وأنّ ولاية أهل البيت شرط في قبول الأعمال …

عدّة وجوه قرآنية وحديثية وعقلية:

ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط لقبول الأعمال … ص: 128

الدليل الأوّل: الآيات القرآنية:

الآية الأُولي: قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1»

، ذكر علماء المسلمين من الخاصّة والعامّة، من رواة ومؤرّخين ومفسّرين متواتراً:

أنّ كلمة القربي هي خاصّة بأُناس قد عيّنهم النبيّ صلي الله عليه و آله، وعندما يستعرض الباحث للسيرة النبويّة الشريفة يري أنّ النبيّ لم يكن يدع فرصة أو مناسبة صغيرة كانت أو كبيرة إلّاويؤكّد لهم من خلالها علي تحديد قُرباه، من حديث الكساء والأحاديث الأُخري: «عليّ منّي وأنا من عليّ»، «فاطمة بضعة منّي …»، «حسين منّي وأنا من حسين»، وهكذا توجد أحاديث كثيرة بهذا المضمون.

ولابدّ أن يكون هناك خطب كبير يترتّب علي هؤلاء القُربي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسالة التي بعث بها النبيّ صلي الله عليه و آله. والآية المباركة هي من ملاحم الآيات القرآنية التي تبيّن حقيقة الرسالة الخاتمة الكاملة التي جاء بها، والتي تشمل جميع الأعمال، من اعتقادات بالتوحيد والنبوّة والمعاد،

وعبادات من صلاة وصيام وحجّ وزكاة … الخ.

وبعبارة أُخري: من فروع وأُصول، فإنّها جميعاً وقعت طرف معاوضة وتعادل في قبال محبّة أهل البيت، ومقتضي التعادل والمعادلة بين العوض والمعوّض هو

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 129

كون العوض بدرجة قيمة المعوّض، ولا ريب أنّ عمدة وثقل الرسالة هي في أُصول الدين وأركانه، لا مجرّد الفروع، فإذا كان في المعوّض والتي هي الرسالة جملة أُصول الدين، فلابدّ أن يكون العوض هو أيضاً من أُصول الدين؛ بمقتضي الموازنة والمعادلة.

وجعل العوض في قبال جملة أُصول الدين في المعوّض دالّ علي كون مودّة القربي وولايتهم هو مفتاح لمعرفة بقية أُصول الدين. وهذا يدلّ ويقضي بالترابط بين مجموع هذه الأُصول وأنّ الباب والمفتاح لبقية حقائق أُصول الدين يمرّ بولايتهم.

فمن أراد مدينة الإيمان فلابدّ عليه أن يأتيها من بابها، فمغزي إفراد الولاية والمودّة للقربي في كفّة وطرف المعاوضة في قبال جملة بقية أُصول الدين في طرف آخر، هو إشارة لهذا المعني وبيان لهذا الترابط العضوي في محاور أُصول الدين، وأنّ الوصول إلي حقائق الإيمان لا مجرّد ظاهر الإسلام هو بولاية القربي ومودّتهم؛ لأنّها الهداية إلي بقية الأُصول، والعاصمة عن الضلال، كما هو مؤدّي حديث الثقلين حيث اشترط في العصمة من الضلال اشترط لزوم التمسّك بالكتاب والعترة.

وهذا ممّا يفيد أنّ صحّة التوحيد وصحّة الإيمان بالنبوّة والمعاد لا بدّ في تحققهما من ولاية ومودّة ذي القربي فضلًا عن الثواب والجزاء عليها، فإذا كان هكذا الحال في أُصول الدين ففي فروعه أوضح؛ حيث إنّها في الرتبة الثانية من أجزاء الرسالة.

فتبين من مفاد هذه الآية الشريفة: أنّ مودّة القربي شرط في تحقّق أُصول الدين فضلًا عن الثواب عليها، ناهيك عن أعمال الفروع والثواب عليها.

وبالتالي، فولاية القربي شرط في

صحّة الأعمال فضلًا عن قبولها، وأنّ المراد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 130

بتلك الأعمال ما يشمل الاعتقاد لا صرف أفعال الجوارح، وهذه قراءة عميقة لقاعدة شرطية الولاية في صحّة الأعمال.

الآية الثانية: وهي قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «1»

النازلة بعد قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «2»

، ومن الواضح من الآيتين أنّ الرسول صلي الله عليه و آله قد أُمر من قِبله تعالي بإبلاغ أمر بالغ الخطورة والأهميّة، بحيث لولا إبلاغه لما كانت هناك أية جدوي في إبلاغ التوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين فضلًا عن تفاصيل الفروع؛ إذ عمدة اسم الرسالة قد طُبّق علي الأُصول والأركان.

وكان ذلك الأمر المأمور بإبلاغه شديد الوقع علي نفوس المسلمين؛ إلي درجة كان الرسول يتخوّف تمرّدهم عن الطاعة والتسليم. وكلّ هذا المفاد يجده المتمعّن اللبيب في أجواء ألفاظ الآيتين، وقد ذكر المفسّرون ورواة الحديث نزولهما في إبلاغ النبيّ صلي الله عليه و آله لإمامة وولاية عليّ عليه السلام من بعده في غدير خم «3».

ومفاد الآيتين يتناغم بشدة مع مفاد آية المودّة؛ حيث يشير إلي التقابل بين جملة الرسالة والديانة في طرف، وما أُبلغ في ذلك اليوم في طرف آخر، كما مرّ ذلك في مفاد آية التبليغ، حيث علّق رضاه تعالي بمجمل الرسالة والدين علي ذلك الأمر، أي علّق رضاه بالتوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين علي ذلك الأمر، فقبولها موقوف عليه، بل في الآية دلالة علي توقّف صحّتها عليه حيث علّق إكمال الدين عليه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 131

ژوالإكمال يغاير الإتمام الذي في النعمة، حيث إنّ

كمال الشي ء يغاير تمامه؛ إذ كمال الشي ء هو بصورته التي هي قوام هويته، وأمّا تمام الشي ء فهي نعوته الطارئة بعد تحقّق هويته، فمفاد هذه الآية يدلّ علي ما تقدّم استنتاجه واستظهاره في آية المودّة من أنّ أُصول الدين وأركانه فضلًا عن الفروع مشروطة بالولاية، كما أنّ المشروط في الأعمال بالولاية هو صحّتها فضلًا عن قبولها.

الآية الثالثة: وهي قوله تعالي: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «1»

، وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لقصّة آدم وإبليس علي المطلوب إجمالًا، حيث إنّ إبليس كان مقرّاً بالتوحيد والمعاد حينما قال: «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «2»

، وكذا كان مقرّاً بنبوّة لآدم عليه السلام حينما قال: «أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ» «3»

.ولكنّه لم يكن يأتمّ بآدم ويتولّاه ويتابعه ويطيعه، حيث إنّ السجود عنوان لكلّ ذلك فالإباء عن السجود عبارة عن ذلك، ومع كلّ إقراره بالثلاثة من الأُصول، ولكنّه استحقّ الطرد والرجم والذمّ من اللَّه تعالي. وظاهر هذه الأحكام هو عدم صحّة صور ما أقرّ به من توحيد ومعاد ونبوّة، إذ حُكم علي صورة إيمانه بالكفر مضافاً إلي العقوبة؛ فليس التولّي لوليّ اللَّه والائتمام به مجرّد شرط لقبول بقية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 132

الاعتقادات، بل هو شرط صحة لها. فالأُصول الاعتقادية عبارة عن نسيج مترابط كلّ منها دخيل في

صحّة الآخر.

ويظهر من مفاد هذه الآيات ما ظهر من مفاد الآيات السابقة من كون ولاية خليفة اللَّه وحجّته شرط في صحّة الأعمال لافي مجرّد قبولها فقط، وشرط في صحّة الاعتقادات لامجرّد أعمال الجوارح.

وهناك طوائف أُخري من الآيات الواردة في ولايتهم عليهم السلام دالّة علي ذلك، لكن نكتفي بهذا القدر من الإشارة في المقام.

الدليل الثاني: الأحاديث النبويّة والقدسيّة المستفيضة الواردة عند الفريقين:

«لو أن عبداً عمّره اللَّه ما بين الركن والمقام، يصوم النهار ويقوم الليل حتّي يسقط حاجباه علي عينيه ثمّ ذُبح مظلوماً كما يُذبح الكبش، ثمّ لقي اللَّه بغير ولايتهم عليهم السلام، لكان حقيقاً علي اللَّه عزّوجلّ أن يكبّه علي منخريه في نار جهنّم» «1»

.وفي الحديث القدسي: «ثمّ لقيني جاحداً لولاية عليّ لأكببته في سقر» «2»

.بل في بعضها: «إنّ للَّه في وقت كلّ صلاة يصلّيها هذا الخلق لعنة. قال: قلت: جُعلت فداك ولم؟ قال: بجحودهم حقّنا وتكذيبهم إيّانا» «3»

.وعن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب الزنديق مدّعي التناقض في القرآن، قال: «..

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 133

وأمّا قوله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ» «1»

. وقوله:

«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «2»

، فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلّامع الاهتداء، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقاً بالنجاة ممّا هلك به الغواة، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتوحيد وإقرارها باللَّه، ونجا سائر المقرّين بالوحدانية، من إبليس فمن دونه في الكفر، وقد بيّن اللَّه ذلك بقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» «3»

، وبقوله: «الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» «4».

وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها، ومن ذلك: إنّ الإيمان قد يكون علي وجهين:

إيمان

بالقلب وإيمان باللسان، كما كان إيمان المنافقين علي عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، لمّا قهرهم السيف وشملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فالإيمان بالقلب هو التسليم للربّ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام لم يرد بها غير زخرف الدنيا والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلّامع الاهتداء إلي سبيل النجاة وطريق الحقّ» «5»

.وفي بعض الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام: «فلو كان لك بدل أعمالك هذه عبادة الدهر من أوّله إلي آخره، وبدل صدقاتك والصدقة بكلّ أموال الدنيا، بل بمل ء الأرض ذهباً، لما زادك ذلك [بدون ولاية أهل البيت عليهم السلام] من رحمة اللَّه إلّابُعداً، ومن سخط اللَّه إلّا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 134

قرباً» «1»

.ونُقل عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «رجلٌ حضر الجهاد في سبيل اللَّه فقُتل مقبلًا غير مدبر والحور العين يطلعن إليه، والخزّان يتطلّعون ورود روحه عليهم، وأملاك الأرض يتطلّعون نزول حور العين إليه والملائكة وخزّان الجنان فلا يأتونه، فتقول ملائكة الأرض حوالي ذلك المقتول: ما بال الحور العين لا ينزلنّ إليه، وما بال خزّان الجنان لا يردون عليه، فيُنادَون من فوق السماء السابعة: يا أيّتها الملائكة، انظروا إلي آفاق السماء ودوينها، فينظرون فإذا توحيد هذا العبد وإيمانه برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وصلاته وزكاته وصدقته وأعمال برّه كلّها محبوسات دوين السماء قد طبّقت آفاق السماء كلّها كالقافلة العظيمة قد ملأت ما بين أقصي المشارق والمغارب ومهاب الشمال والجنوب، تنادي

أملاك تلك الأثقال الحاملون لها الواردون بها: ما بالنا لا تفتح لنا أبواب السماء لندخل إليها بأعمال هذا الشهيد؟ …».

وفي تتمّة الرواية أنّه يُأمر بتلك الأعمال فتوضع في سواء الجحيم؛ لأنّ ليس لذلك الرجل موالاة عليّ والطيبين من آله، ومعاداة أعدائه، ويُقلّب اللَّه تلك الأثقال من الأعمال أوزاراً وبلايا علي فاعلها؛ لمّا فارقها عن مطاياها من موالاة أمير المؤمنين عليه السلام؛ ولموالاته لأعدائه. «2»

قراءة ثالثة للقاعدة: العبادة من دون الولاية عصيان وعدوان، والأعمال بدون الولاية آثام … ص: 134

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 135

ومضمون هذه الروايات يتضمّن ما تقدّم من أنّ الولاية شرط في الصحّة فضلًا عن القبول، وشرط في أُصول العقائد فضلًا عن الفروع. ويزيد ويمتاز بمعني ثالث، وهو أنّ تلك الأعمال التي صورتها إيمان وطاعة هي في حقيقتها كفر ومعصية، وهذا المعني يثقل علي السامع تصوّره فضلًا عن تصديقه في الوهلة الأُولي، وتمجّه النفوس وتنفر منه الأذهان وتتلّكأ عنده الألسن، لكن الحقيقة إذا اتضحت معالمها لا مفرّ من الأخذ بها واتّباعها، وإذا حصحص الصبح انقشعت غياهب الظلمة، وليكن تقرير مفاد هذه الروايات هو تقرير الدليل العقلي كما ترشد إليه الروايات بل والقرآن أيضاً، فالأحري في المقام تقريره.

الدليل العقلي: ويقرّر بأنحاء:

الأوّل: قد مرّ أنّ حقيقة وروح ومخ وقوام العبادة هو بالطوعانية والضراعة والخضوع والتذلّل للباري، والتسليم والسلم والانقياد له، وهو جوهر العبادة والعبودية وقلب ومركز وقطب معناها، فمع خلوّها عنه لا تعدوا أن تكون قشور خاوية اللب وبدن جائف ميتة بلا روح، فهو قوام القربة والتقرّب، فالعبادة والعبودية هي الطاعة والطوعانية، والطاعة هو الانقياد لإرادة اللَّه والخضوع لها.

وأمّا تحكيم إرادة النفس علي إرادة الربّ فهو تجرّي واستكبار علي العظيم- عزّ وجلّ- وعصيان له.

وإرادة اللَّه لا يهتدي إليها البشر من نفسه، ومن ثمّ احتاج إلي بعثة الرسل، وبمجملات الشريعة ومتشابهاتها

لا يحيط البشر بتفاصيل إرادة الربّ من قبل أنفسهم، ومن ثمّ اضطرّوا إلي الحجّة والإمام الراسخ في العلم الذي تكون إرادته ومشيئته هي مظهر مشيئة وإرادة اللَّه. فمن ثمّ امتنع الاطّلاع علي إرادات الربّ من دون حجّته وخليفته في أرضه، ومن ثمّ اضطرّ البشر إلي ولاية خليفة اللَّه والمطهّر من عترة نبيّه لكي يطّلع علي مواطن إرادات اللَّه ورضاه.

وإلّا امتنع عليهم عبادة اللَّه، وكانوا فيما يمارسونه من طقوس وصور عبادية هي معاصي وتجرّي علي اللَّه؛ بتحكيمهم إراداتهم وميولهم وأهوائهم علي إرادة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 136

اللَّه، وكانوا يطيعونه من حيث تريد أنفسهم ولا يطيعونه من حيث يريد، ولأجل ذلك احتاجوا في تحقّق عبادتهم للَّه تعالي إلي دلالة وهداية الإمام والحجّة المنصوب من قبله.

ومن ذلك يتبيّن أنّ السجود الطويل من قبل إبليس حيث لم يكن منطوياً علي الخضوع للَّه؛ لعدم خضوع إبليس لمن أمره اللَّه تعالي بالخضوع له وهو خضوعه لآدم وتوليّه له، فلم يكن إبليس في صورة طاعته مقيم علي الطاعة ولا خاضع لإرادة الربّ، بل كان في سجوده مقيم علي الجموح والطغيان والتعدّي علي الربّ وتحكيم إرادته علي إرادة اللَّه وكان سجوده الصوري حقيقته معصية وطغيان واستكبار وعدوان علي ساحة القدس الإلهي.

وبذلك يتبين أنّ صورة العبادات من دون طاعة اللَّه بولاية وليه هي عدوان وعصيان، وترك للمواطن الحقيقية لعبادة اللَّه، وانتهاج لمناهج عبادية تتطاول فيها إرادة العبد علي إرادة المعبود. وبهذا البيان العقلي يتبين المعني الثالث للقاعدة وهي شرطية الولاية في العبادات والأعمال أن بدونها تكون تلك الأفعال هتوك واجتراءات علي المولي العزيز يؤزر فاعلها ويأثم بها بدل أن يُثاب، لا أن يُحرم من مجرّد الثواب.

هذا تقرير لهذا الوجه في الأعمال، وأمّا تقريره علي صعيد الإيمان

والاعتقادات فبيانه أنّ الإيمان عمل كلّه وطاعة كلّه، فليس الطاعة والعمل مخصوصين بأعمال الجوارح بل يعمّان أعمال الجوانح، كما يعمّان أعمال القلوب من الإيمان بالأصول الاعتقادية، ولذلك ورد أنّ أوّل الفرائض التي افترضها اللَّه علي العباد هو التوحيد والمعرفة بمعني الإيمان والإذعان والإخبات والتسليم، وكذلك الإقرار القلبي ببعثة الرسل والمعاد والكتب وكذلك بأوصياء الرسل وهم الأئمّة المستخلفين بعدهم كما مرّ في مفاد آية المودّة الدالّة علي أنّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 137

تولّي العترة المطهّرة هو من أصول الديانة، وكذلك هو مفاد آيتي المائدة النازلتين في بيعة الغدير، وغيرها من طوائف الآيات والأحاديث النبويّة الدالّة علي ذلك.

فإذا تقرّر أنّ الإيمان بأُصول الدين فريضة وطاعة وعمل بل هو من أكبر الفرائض وأعظم الطاعات والأعمال- يتبين أنّ الإيمان أيضاً لابدّ فيه من الإخبات والخضوع والانقياد والتسليم ونحو ذلك، بخلاف ما إذا امتزج بجموح واستكبار وعناد وجرأة علي ساحة الباري، فإنّه لن يعود طاعة وعملًا عبادياً، بل سيكون معصية وطغياناً وفرعنة وصنمية للنفس، وعبادة للطاغوت لا عبادة للَّه.

فالإباء والاستكبار عن الإخبات والتسليم والإيمان بوليّ اللَّه وخليفته يدلّ علي انقلاب حقيقة الإيمان إلي طغيان وكفر، أي يدلّ علي صورية الإيمان بالتوحيد والمعاد؛ إذ مقتضي الإقرار بالتوحيد هو الإقرار بكلّ الصفات الكمالية للباري، وأنّه الغنيّ المطلق، وأنّ المخلوقات هي عين الفقر المحض والافتقار إليه تعالي، وأنّ له الملك وهو مالك جميع الأشياء، فله ملك ذوات المخلوقات ووجوداتها وأفعالها، وله مالكية الخضوع والطاعة.

فالتمرّد عليه في أُمّهات الطاعات استكبار وإنكار لهذه المالكية، فيرجع إلي الخلل في الإيمان بالتوحيد، وبالتالي يتّضح أنّ عصيان اللَّه في التولّي لوليه هو كفر بمالكية اللَّه واستحقاقه للطاعة، نظير الخلل الواقع في الإيمان بالمعاد أو بالرسالة، فإنّه يؤول إلي الخلل

في التوحيد أيضاً فيكون هناك غاية وراء اللَّه، فتكون والعياذ باللَّه- ذاته محدودة.

وكذلك الحال في إنكار الرسالة، فإنّه يرجع إلي إنكار كون صلاحية الحكم والتشريع للباري، وبالتالي يؤول إلي عدم الإقرار بعلم الباري النافذ ولا بحكمته ولا بإحاطته بخفيات وعواقب الأُمور.

فالإقرار والإيمان بالتوحيد بمنزلة الإقرار المبهم المجمل الذي لا يتمّ تفصيله

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 138

وكماله إلّابالإقرار بالتوحيد في مقامات أُخري، فالإيمان بالمعاد هو مقام آخر من مقامات التوحيد وهو التوحيد في الغاية- كما أنّ أصل التوحيد هو توحيد في مقام المبدأ والأوّلية، ولا يكمل التوحيد بالاعتقاد بأنّه أوّل من دون الاعتقاد بأنّه آخر، كذلك الحال في الاعتقاد بالرسالة وببعثة الرسل والكتب المنزّلة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام التشريع «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ».

ونفس الشي ء يقال في الولاية والإمامة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية، فهذه مقامات وأركان للتوحيد لا يتمّ صرح الاعتقاد بالتوحيد إلّابها. وفي تفسير القمّي عنه عليه السلام حينما سئل عن التوحيد قال: «هو لا إله إلّااللَّه، محمّد رسول، عليّ وليّ اللَّه، إلي ها هنا التوحيد» «1»

.وفي البصائر والتوحيد: عن الصادق عليه السلام في بيان فطرة التوحيد، قال عليه السلام:

«فطرهم علي التوحيد، ومحمّد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وعليّ أمير المؤمنين عليه السلام» «2»

.وبذلك يتبيّن أنّ الاعتقاد ببعض الأُصول والتخلّف عن البعض الآخر، هو كالاعتقاد ببعض الصفات الإلهية وإنكار البعض الآخر، ويؤدّي إلي القول بمحدودية الذات وتركيبها وتجزّئها، ومن ثمّ ورد قوله تعالي: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «3»

.الثاني: قد تقدّم في الأدلّة القرآنية والروائية السابقة أنّ الأعمال تحبط، وهي حابطة بدون الإيمان، وهذا غير مختصّ بالفروع بل شامل للأُصول أيضاً، والحبط الأخروي للعمل والاعتقاد وإن لم يكن في الاصطلاح

الفقهي ملازماً لعدم صحّة العمل والاعتقاد، كذلك في المصطلح الكلامي الدارج، وأنّه فساد بلحاظ الثواب

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 139

الأخروي والقبول، لا بلحاظ ماهية العمل.

إلّا أنّ الحبط وفق نظرية تجسّم الأعمال أنّ الجزاء هو عين العمل وحقيقته الباقية، ويكون موجب الحبط كاشفاً عن دخالة ذلك الشي ء في الوجود البقائي للعمل والاعتقاد. وبعبارة أُخري عندما لا يكون للعمل أجر وثواب فذلك يعني أنّه ليس للعمل حقيقة باقية في الأبد الأخروي، فليس هناك إلّاصورة العمل لا حقيقته، ويستلزم ذلك كون الموجب للحبط دخيلًا في حقيقة العمل وبقائه، وكذلك دخيلًا في حقيقة الاعتقاد وبقائه.

ويتبيّن صورية الاعتقاد والأعمال بدون الإيمان، وليس المقصود من صورية الاعتقاد مجرّد الإقرار اللساني، بل إنّ عقد القلب هو علي الصورة لا علي الحقيقة، فما رواه الفريقان من حبط الأعمال والاعتقادات من دون حبّ علي عليه السلام وولايته كما مرّت الإشارة إلي المصادر- وكذلك ما رواه الفريقان أنّه قسيم الجنّة والنار، وأنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق، دالّ علي حبط الاعتقاد فضلًا عن العمل بدون ولايته.

روي الصدوق في الأمالي بإسناده عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

المخالف علي عليّ بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحبّ له مؤمن، والمبغض له منافق، والمقتفي لأثره لاحق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، عليّ نور اللَّه في بلاده، وحجّته علي عباده، وعلي سيف اللَّه علي أعدائه ووارث علم أنبيائه، عليّ كلمة اللَّه العليا، وكلمة أعدائه السفلي، عليّ سيّد الأوصياء ووصيّ سيّد الأنبياء، عليّ أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المسلمين، لا يقبل اللَّه الإيمان إلّا بولايته وطاعته» «1»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 141

القراءة الثانية (ولاية عليّ في الشرائع السابقة) … ص: 141

اشارة

النقطة الأولي:

فكما قد أخذ اللَّه تعالي علي النبيّين والرسل الميثاق بالإقرار

بنبوّة خاتم الأنبياء وبُعثوا بالبشارة بها لأقوامهم، أخذ عليهم وعلي أُممهم الإيمان والتصديق بها:

«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَنْ تَوَلَّي بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ* قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَي وَعِيسَي وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «1»

.فأخذ اللَّه الميثاق علي النبيّين في مقابل إيتائهم وبعثهم بالكتاب والحكمة والنبوّة، وشرط عليهم الإيمان بخاتم الأنبياء ونصرته، وكان ذلك الميثاق مشدّداً مغلّظاً وقد أخذ فيه إقرارهم بذلك وأشهدوا عليه تغليظاً.

ولا يخفي أنّ الآية مشحونة بالدلالات علي هيمنة مقام النبيّ صلي الله عليه و آله علي جميع

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 142

الأنبياء:

منها: التعبير عنهم بالنبوّة والتعبير عنه بالرسالة؛ فإن وصف الرسالة أعلي من مقام النبوّة، وفيه إشارة إلي توسّطه صلي الله عليه و آله بين اللَّه تعالي وبين الأنبياء بالرسالة.

ومنها: التعبير عنه (بمصدّق)، والتعبير عنهم بأنّهم (يؤمنون) به، فإنّ ذلك يقتضي اتّباعهم له دونه؛ فإنّه يوثّق نبوّاتهم.

ومنها: التعبير عنه صلي الله عليه و آله بأنّ تصديقه أسند إلي ما معهم ممّا قد أُوصي لهم، وهذا يغاير التعبير بأنّه (مصدّق لهم)، بينما التعبير عنهم عليهم السلام بأنّهم (يؤمنون به صلي الله عليه و آله)، أي: جعل متعلّق إيمانهم به صلي الله عليه و آله، وفيه بيان لعلوّه عليهم في

المقامات الإلهية.

ومنها: قد أخذ عليهم نصرته دونه، ولم يؤخذ ذلك عليه صلي الله عليه و آله. ثمّ بين تعالي أنّ الإيمان بنبوّة خاتم الأنبياء هو دين اللَّه الذي هو الإسلام، وهو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسي وعيسي والنبيّين.

ونظير هذه الآيات قوله تعالي علي لسان نبيّه عيسي عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» «1»

، وكذا قوله تعالي في قضية بني إسرائيل:

«وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الْكَافِرِينَ» «2»

، فبيّن تعالي أنّ اليهود كانوا قبل بعثة النبيّ صلي الله عليه و آله يستبشرون به ويستظهرون ببعثته وملكه علي المشركين؛ لمعرفتهم ذلك في توراتهم: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 143

وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1».

النبوّة والولاية … ص: 143

وكما قد أُخذ نبوّة النبيّ صلي الله عليه و آله والإيمان بها علي الأنبياء السابقين وأُممهم؛ لكونها قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء، فكذلك قد أُخذت ولاية عليّ عليه السلام وإمامته علي الأنبياء السابقين وأُممهم لأخذها في قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل السابقين. ولبيان ذلك لابدّ من الالتفات إلي نقطتين:

قاعدة أديانية: وحدة الدين وتعدّد الشرايع … ص: 143

الأُولي: إنّ هناك تعدّد بين معني الدين والشريعة، فإنّ الدين واحد وهو الإسلام الذي قد بُعث به جميع الأنبياء والرسل ولا نسخ فيه، وهو مجموعة أُصول العقائد والمعارف وأركان الفروع وأُصول المحرّمات والواجبات في الفروع، وهذا بخلاف الشريعة فإنّ لكل رسول شريعة وهي ناسخة لشريعة النبيّ والرسول الذي قبله، والشريعة هي تفاصيل التشريعات في الفروع.

ويشير إلي هذا التغاير قوله تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «2»

، فالدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام، ولم يبعث الأنبياء بأديان مختلفة، وإنّما الذي أحدث اختلاف الأديان هم أتباعهم، حيث حرّفوا الدين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 144

الواحد وهو دين الإسلام بغياً.

ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «1»

، فبيّن تعالي تعدّد شرائع ومناهج الأنبياء بخلاف الدين فإنّه واحد، وسيأتي تفصيل هذه النقطة وبسطها.

ونستخلص من هذه النقطة في المقام أنّ الأُصول الاعتقادية وأُصول الإيمان هي من مساحة الدين، ومن مقوّمات دين الإسلام غير القابلة للنسخ والتبدّل والتغيّر، فلا تكون من أجزاء الشريعة ولا من تفاصيل الفروع.

وهذا المبحث

والقاعدة الأديانية ينبع منها مناهل عذبة في بحوث المعرفة الدينية واختلاف المذاهب، وينبّه إلي هذا التغاير بين الدين والشريعة، ووحدة الدين وتعدّد الشرايع ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من (مسائل عبد اللَّه بن سلام) للنبيّ صلي الله عليه و آله:

«… قال: صدقت يامحمّد فأخبرني إلي ما تدعو؟ قال صلي الله عليه و آله: إلي الإسلام والإيمان باللَّه.

قال: ما الإسلام؟ قال صلي الله عليه و آله: شهادة أن لا إله إلّااللَّه وحده لاشريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور. قال: صدقت يا محمّد فاخبرني كم دين لربّ العالمين؟ قال صلي الله عليه و آله: دين واحد واللَّه واحد لا شريك له. قال:

وما دين اللَّه؟ قال صلي الله عليه و آله: الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال صلي الله عليه و آله: نعم. قال:

فالشرائع؟ قال صلي الله عليه و آله: كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت يامحمّد..» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 145

ولاية عليّ عليه السلام أصل في الدين لا من فروع الشريعة: … ص: 145

النقطة الثانية: إنّ جملة ما ورد من آيات قرآنية في ولاية عليّ وولده عليهم السلام وإمامتهم، وكذلك ما ورد من أحاديث نبويّة متواترة ومستفيضة في ذلك، دالّ علي أخذ ولايتهم وإمامتهم أصلًا إيمانياً قوامياً في الاعتقاد، كما أشبع ذلك علماء الإمامية ومتكلّميهم في كتبهم، وهذا يقتضي أخذ ولايتهم وإمامتهم ركناً في الدين الحنيف وهو الإسلام، لا أنّها فريضة في تفاصيل الشريعة بمقتضي ما تبين في النقطة الأُولي السابقة.

ويعزّز هذه الحقيقة قوله تعالي في آية الغدير: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ

غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1»

، وبيان الآية وإن كان له مقام آخر سيأتي، إلّاأنّ مفادها إجمالًا: إنّ الذي بلغه النبيّ صلي الله عليه و آله في ذلك اليوم من أخذ البيعة لعليّ عليه السلام في غدير خم من المسلمين، بها يتحقّق كمال الدين وهو الإسلام وهو الركن الركين لرضا الربّ لدين الإسلام، فبيّنت الآية أنّ ولايته وولاية ولده عليهم السلام مأخوذة ركناً في الدين، لا فريضة فرعية في تفاصيل الشريعة.

وسيأتي ثمّة وجه التعبير بأنّها (كمال الدين) ولم يعبّر أنّها (تمام الدين أي الفرق بين الكمال والتمام كما يعزّز هذه الحقيقة قوله تعالي في آية الغدير الثانية وهي: «يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «2»

، حيث جعل الباري تعالي تبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله لبقية أجزاء الدين وللشريعة في طرف، وتبليغه لما أمر به في يوم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 146

الغدير من حجّة الوداع في سورة المائدة في طرف آخر، وهذا ممّا يقضي بكون ولايته وإمامته هي بتلك المكانة في الشأن والأهميّة في الدين، أي من الأُصول الاعتقادية، فهي من الأركان في الدين الحنيف، لا من التفاصيل الفرعية في الشريعة.

وهذا هو مفاد آية المودّة أيضاً في قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1»

، حيث جعل الباري تعالي مودّتهم في كفّة والرسالة في كفّة أُخري، سواء رجع ضمير (عليه) إلي الدين أو إلي جهده صلي الله عليه و آله في تبليغ الدين فإنّ المآل واحد، حيث إنّ قيمة العمل وأجرته هي بقيمة نتيجة العمل وهو الدين، فإذا قوبلت مودّتهم ببقية أجزاء الدين

برمّتها اقتضي ذلك كون مودّتهم هي الركن الركين في الدين، وعليه يظهر أنّ ولايته عليه السلام وولده المطهرين هي تتلو نبوّة خاتم الرسل في الموقعية فهي من الأركان الثابتة في الدين الحنيف وهو الإسلام.

وقد تبيّن ممن مضي ان الدين واحد وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل) وهو أمر لا نسخ فيه ولا تبديل، كما قال تعالي: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ* وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» «2»

، فبيّن تعالي أنّ الدين الذي بُعث به الأنبياء وأُولو العزم واحد، لم يتفرّقوا فيه، وإنّ تفرّق أتباعهم ليس من الدين في شي ء، وإنّما هو لبغي الأتباع والأقوام. ويتّضح من ذلك أنّ جميع الأنبياء والرسل بُعثوا علي الإقرار برسالة خاتم النبيّين ومحبّة قرباه وولاية أهل بيته.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 147

القواعد الثلاث الأُمّ المحيطة في معرفة مقاماتهم … ص: 147

اشارة

القاعدة الأولي:

من شرائط قبول التوبة التوسّل والتوجّه بهم إلي اللَّه بعد المعرفة والتصديق بولايتهم.

القاعدة الثانية:

إنّ شرط صحّة العبادة وقبولها بل صحّة الإيمان باللَّه وبرسوله وبولايتهم هو التوجّه بهم إلي اللَّه بعد التصديق بولايتهم.

القاعدة الثالثة:

إنّهم عليهم السلام باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتي للقرب والزلفي ونيل كلّ مقام، وإنّ دعاء العبد والعباد لا يستجاب إلّابعد أن يطلب النبيّ صلي الله عليه و آله من اللَّه تعالي ويسأله إجابة طلبهم، وهو معني شفاعته ووسيلته عند اللَّه تعالي كما سيتبين من الآيات.

أما القاعدة الأولي: وهي شرطية التوسّل والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي في صحّة وقبول التوبة بعد التصديق بولايتهم، فقد ذكر جملة من

المتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين وفقهاء الإمامية: أنّ ولايتهم عليهم السلام من جملة شروط قبول وصحّة التوبة؛

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 148

لقوله تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1»

، حيث اشترطت الآية في التوبة الهداية علاوة علي أصل الإيمان والعمل الصالح، وهي المشار إليها في آيات عديدة، كقوله تعالي: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» «2»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «4»

.وغيرها من الآيات فضلًا عن الروايات المستفيضة المشيرة إلي وجه دلالة الآيات علي ذلك. إلّاأنّ مقتضي جملة من الآيات والروايات إضافة شرط آخر وهو التوسّل والتوجّه بهم عليهم السلام إليه تعالي، ويدلّ عليه جملة من الآيات:

منها: قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «5»

، فذكرت الآية ثلاثة شروط لحصول التوبة:

الأوّل: مجي ء مذنبي الأُمّة إلي الرسول. والمراد: الالتجاء والتوسّل والتوجّه به إلي اللَّه تعالي، فجعل تعالي ذكره التوجّه أوّلًا إلي نبيّه الذي هو الوسيلة، لكي يتمّ التوجّه من بعد إليه، كاستقبال المصلّي أوّلًا الكعبة متوجّهاً بها إلي اللَّه تعالي، فهذا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 149

الشرط الأوّل من ناموس أدب الدعاء في القرآن الكريم.

ودعوي السلفية بشركية التوجّه في الدعاء إلي النبيّ وأهل بيته ردّ لهذه السنّة القرآنية العظيمة في أدب الدعاء، بل إنّ الآية ناصّة بكل وضوح علي أنّ دعاء أي داعي لا يستجاب إلّابطلب النبيّ صلي الله عليه و آله من اللَّه تعالي، فلا بدّ من سؤال النبيّ صلي الله عليه و آله من ربّه كي يستجاب طلب الداعي

الثاني: إعلان التوبة والاستغفار من الذنب.

الثالث: استغفار الرسول

صلي الله عليه و آله لهم بعد ذلك، وهو عبارة عن شفاعته لهم، فأيّ مذنب في هذه الأُمّة إلي يوم القيامة لا يغفر اللَّه له ذنبه إلّابشفاعة النبيّ صلي الله عليه و آله، فهذه الآية الكريمة هي من الآيات المتعرّضة لشرائط التوبة، حيث اشترطت لحصولها الشرائط الثلاثة الآنفة الذكر، وقد حكي الآلوسي في روح المعاني عن ابن عطاء في تفسير قوله تعالي: «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

، أي: لو جعلوك الوسيلة لديّ لوصلوا إليّ «2».

هذا وقد وردت عن أهل البيت عليهم السلام روايات مستفيضة تفيد أنّ الدعاء من الأوّلين والآخرين مطلقاً وبدون استثناء- محجوب حتّي يصلّي الداعي علي محمّد وآل محمّد، كصحيح صفوان الجمال عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «كلّ دعاء يُدعي اللَّه عزّ وجلّ به محجوب عن السماء حتّي يصلّي علي محمّد وآل محمّد» «3».

ومثلها: صحيح هشام بن سالم «4»، ومثلها: رواية الخزار بسندٍ متّصل عن أبي ذر، عن النبيّ صلي الله عليه و آله، ومثلها: ما رواه الصدوق عن حارث الأعور عن أمير المؤمنين عليه السلام «5».

وفي موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «من دعا ولم يذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رفرف الدعاء علي رأسه، فإذا ذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رُفع الدعاء» «6». وغيرها من الروايات.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 150

ومن الواضح أنّ التوبة والاستغفار من الذنب دعاء، فلا يرفع ولا تفتح له أبواب السماء إلّابالتوجّه بالنبيّ وآله، وسيأتي أنّ هذه الروايات تشير إلي مضمون عدّة من الآيات، فلابدّ من الالتفات إلي ذلك.

ويصبّ في مضمون قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا» «1»

قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ

يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «2»

، لكنّ الآية السابقة صريحة في الشرطية، وأمّا الآية الثانية فغاية دلالتها أنّ التوسّل والتوجّه بالنبيّ في التوبة والتسليم والخضوع والتعظيم لرسول اللَّه من مفاتيح الوفادة علي اللَّه تعالي، ومن علائم الإيمان، والاستكبار عن التوجّه بالنبيّ من صفاة النفاق والمنافقين.

التوجّه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله بالدعاء … ص: 150

وهذه الآيات القرآنية هي الأُخري تدلّل علي أنّ من سنن ناموس الدعاء في القرآن التوجّه أوّلًا إلي النبيّ صلي الله عليه و آله والطلب منه للتوسّط عند اللَّه لقضاء الحاجة، وليس من الأدب الإلهي في دعاء العبد أن يتوجّه بالدعاء والطلب إلي اللَّه تعالي مباشرة ويصدّ عن التوجّه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله تحت شعار الابتعاد عن الشرك والتفويض والغلوّ كما يدّعيه السلفية- فإنّ هذا عين الاستكبار والنفاق، كما صرحت به هذه الآية الكريمة، وهو عين المرض الذي ابتلي به إبليس؛ حيث أبي أن يتوجّه بآدم كالملائكة في عبادته وسجوده حيث توجّهت لآدم لتتوجّه بعد به إلي اللَّه تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 151

وكانت الملائكة بذلك موحّدين، بخلاف إبليس؛ فإنّه وصِفَ بالكفر، بل إنّ الآية تحصر استجابه دعاء كلّ داعي بأن يطلب النبيّ صلي الله عليه و آله من اللَّه تعالي حاجة العبيد كي يستجيب. وهو معني إستغفاره صلي الله عليه و آله وسؤاله، أي لابدّ من طلب النبيّ صلي الله عليه و آله.

ومنها: قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1»

، فاشترطت الآية لفتح أبواب السماء التصديق بآيات اللَّه والخضوع لها، والمراد من آياته تعالي حججه المصطفون، كما في قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «2»

؛ وذلك لأنّ التكذيب في مقابل التصديق،

وهما في حقّ الحجّة المنصوب الذي يخبر عن اللَّه تعالي، خلاف الآيات التكوينية في الآفاق مثلًا، فإنّه إليها يقال غافلون عنها ولا يسند التكذيب.

فاشترط في الآية المباركة أمران:

الأوّل: التصديق والإيمان بالآيات.

والثاني: الخضوع لها والتوجّه إليها؛ لأن التعبير ب (استكبروا عنها) متضمّن لمعني الصدّ، فمقابله الخضوع للآيات والتوجّه إليها.

وممّا يدلّل علي أن المراد من الآيات الحجج المصطفون، ورود التعبير بنفس الشاكلة في إباء إبليس عن التوجّه بآدم في عبادة ربّه، كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «3»

.فشاكل التعبير بالإباء الاستكبار؛ إذ الإباء هو الجحود القلبي، والاستكبار هو في جانب العمل والصد، في مقابل الخضوع والتوجّه.

ومن الواضح أنّ فتح أبواب السماء لابدّ منه في التوبة لقبول دعاء الاستغفار. ثمّ إنّ الآية جعلت هذين الشرطين من شروط دخول الجنّة، وأكّدت استحالة ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 152

أي فتح أبواب السماء ودخول الجنّة من دون الإيمان بآيات اللَّه الحجج المنصوبين من قبله تعالي، ومن دون الخضوع والتوجّه بهم إليه تعالي، أي أنّه وإن حصل الإيمان بحجج اللَّه المصطفين لا يُفتح باب السماء للدعاء ولا يُدخل الجنّة من دون التوجّه إليهم والتوسّل بهم؛ ليحصل بذلك التوجّه إلي اللَّه تعالي، ولا يخدعنّك استكبار إبليس حيث أبي أن يتوجّه لآدم ويجعله قبلة في سجوده؛ ليحصل بذلك التوجّه إلي اللَّه تعالي كما فعلته كلّ الملائكة الموحّدين، بخلافه حيث أراد التوجّه مباشرة إلي اللَّه تعالي استكباراً وصدّاً عن خليفة اللَّه تعالي ووسيلة فما يقوله السلفية وتفويض وغلو هي مقوله إبليس وقد رد القرآن مقولته.

ثم إنّ هذه الآية لا تقتصر في الدلالة علي القاعدة الأُولي، بل هي تدلّ علي القاعدة الثانية؛ حيث إنّ فتح أبواب

السماء ليس فقط في مقام الاستغفار والتوبة، ولا يقتصر علي مطلق الدعاء، بل هو في مطلق التوجّه والنية في مقام العبادة للإقبال والوفود علي الحضرة الإلهية، وفي صعود الأعمال والعقائد وقبولها، كما في قوله تعالي: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «1»

، فإنّ صعود الكلم الطيب وهو المعتقد ورفع العمل الصالح لا يتمّ إلّابفتح أبواب السماء، ومفاتيح أبواب السماء هي أوّلًا: التصديق بحجج اللَّه المصطفون الذين اصطفاهم بالطهارة، وثانياً: الخضوع لهم بالتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي، لا الاستكبار والصدّ عنهم.

ومعني التوجّه بهم إليه تعالي: هو التوجّه إليهم لكي يحصل التوجّه إليه تعالي ولهذا أمر تعالي الملائكة بالتوجّه لآدم في السجود كي يحصل التوجّه إليه تعالي،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 153

وكما هو الحال في التوجّه في العبادة إلي الكعبة ليتوجّه إلي الباري تعالي ولهذا ابتدأت الآيتان السابقتان بذلك «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ» «1» و «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ..» «2»

، فالمجي ء إلي الحضرة النبويّة أوّلًا هو التوجّه للنبيّ صلي الله عليه و آله أولًا ليطلب لهم من اللَّه تعالي وليحصل لهم التوجّه إليه تعالي مآلًا، بل إنّ هذه الآية تدلّ علي القاعدة الثالثة، وتقريب دلالتها أنّ التعبير بأبواب السماء وفتحها وهو تعبير عن مسير الوفادة إلي الحضرة الإلهية، وبيان لمسافة القرب والزلفي إلي الساحة الربوبية، فهو بيان للاستقبال والتوجّه إلي الحضرة الربانية، فكما تُستقبل القبلة ويُتوجّه بها إلي اللَّه فكذلك لابدّ في الاستقبال والتوجّه القلبي من التصديق بآياته وحججه والخضوع لطاعتهم والتوجّه بهم إليه في مطلق المقامات القُربية والزلفية، فيمتنع علي المستخفّين بحجج اللَّه والمستهينين بهم الصادّين عن التوجّه إليهم وبهم إلي اللَّه أن تفتح لهم أبواب القرب الإلهي.

كما طُرد إبليس

من درجة القرب وحُرمت عليه الرحمة الإلهية، وأُسقط من مقام الزلفي إلي حضيض البعد وهاوية اليأس وقعر الحرمان واللعنة؛ لاستكباره علي خليفة اللَّه وإباءه عن استقبال آدم في السجود والتوجّه به إلي اللَّه، فهو بذلك لم يقصّر في آداب العبودية مع الحضرة الربوبية فقط، بل امتنع عليه الوفود إليه تعالي، وإلي ذلك تشير الآية الكريمة: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» «3»

، فمن أُصول السنن الإلهية في أدب التوجّه واللقاء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 154

والقرب هو الخضوع لآياته وأصفياءه الذين نصّبهم حججاً علي خلقه، بالتوجّه إليهم ليتّخذهم وسيلة إلي اللَّه.

حقيقة ابتغاء الوسيلة هو قصدها: … ص: 154

ومنها: قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1»

والآية يمكن أن يذكر في إعرابها احتمالان:

الأوّل: أن يكون قوله (ابتغوا) قد أُسند إلي كلّ من (إليه) و (الوسيلة)، فيعمل فعل (ابتغوا) في كلّ من الجار والمجرور والاسم وهو الوسيلة، وعلي ضوء هذا التقدير في الإعراب يكون الابتغاء- وهو القصد والتوجّه- قد جعل متعلّقاً بكلّ من الجار والمجرور والوسيلة.

وحاصل المعني حينئذٍ أنّه في مقام القصد يتوجّه إلي كلّ من الساحة الربوبية ويتوجّه إلي الوسيلة، غاية الأمر يكون التوجّه إلي الوسيلة مقدّمة للتوجّه إلي الساحة الربوبية.

الثاني: أن يكون فعل (ابتغوا) أُسند إلي (الوسيلة) فقط، أي أنّه يعمل في هذه اللفظة فقط، ويكون مفعول به للفعل، وأمّا الجار والمجرور فهو متعلّق بنفس الوسيلة، والذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة) بما اشتمل من معني الحذف، فيكون حاصل المعني حينئذٍ- أنّ القصد والتوجّه والابتغاء هو إلي الوسيلة

ابتداءً وحصراً، غاية الأمر أنّ الوسيلة التي يتوجّه إليها هي تلك التي بذاتها تُوصّل وتُسلك بالذي يتوجّه إليها وبها إلي الساحة الربوبية، ويعضد هذا المعني وهو كون ابتغاء الوسيلة هو بالتوجّه إلي الوسيلة وقصدها ليحصل التوجّه إلي اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 155

تعالي مآلًا ومنتهيً جملة من الشواهد:

منها: إنّ اتّخاذ الوسيلة المأذون بها من قِبله تعالي مقتضاه أنّ مقام الإقبال والارتياد للقرب لا يُطوي إلّابالوسيلة؛ لأنّ الوسيلة هي ما يُتوسّل به ويُعالج به لبلوغ غاية. فإذاً كان القصد إليه تعالي والتوجّه إليه كمنتهي الغايات يتوقّف علي الوسيلة، مع أنّ الباري تعالي أقرب إلينا من حبل الوريد من جانبه، لكنّه ليس قرباً مكانياً كقرب جسم من جسم يستلزم قرب أحد الطرفين قرب الطرف الآخر، بل قربه تعالي منّا قرب قدرة وهيمنة وقيمومة، وهو كمال سيطرته وقاهريته علي عباده.

وأمّا من طرف العباد، فمسيرهم إلي شاهق الساحة الربوبية ذو مسافة بعيدة؛ لبعدهم وقصورهم عن الكمال المطلق، فلا يتسنّي لكلّ وارد أن يهتك الحجب.

ومنه يظهر أنّ الآية في بيان سنّة إلهية دائمة دائبة في كلّ المخلوقات للتوجّه إلي الحضرة الإلهية.

ومنها: إنّ الآيات وسيلة لمعرفة الربّ عند القلب والعقل؛ فإنّ الباري تعالي من عظمته لا يُكتنه ولا يُكتنف ولا يُحاط به، كما لا يملس ولا يجبه ولا يمسّ ولا يجسّ؛ إذ ليس هو بجسم وليس بروح وليس بعقل، فلا يجسّم ولا يشبّه بأحد من خلقه، إلّاأنّ نفي التشبيه بمراتبه لا يستلزم التعطيل، بل إنّ فعله دالّ عليه، ولا سيما عظائم خلقه وهي آياته الكبري، ومنها يتعرّف العقل ويهتدي إليه تعالي وإلي عظيم صفاته، كما هو محرّر مبسوط في مباحث المعرفة التوحيدية.

فبين نفي التشبيه ونفي التعطيل إقامة التوحيد، تتحقّق بدلالة الآيات، كما

أشارت إلي ذلك الصدّيقة الزهراء فاطمة عليها السلام في مستهل خطبتها، حيث قالت:

«وأحمد اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 156

وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه» «1»

.فتعلّل سلام اللَّه عليها- ضرورة الوسيلة وابتغاءها بشدّة عظمة اللَّه، وحيث إنّ التعطيل مفروغ من بطلانه، فتحتّمت ضرورة الوسيلة فالبرهان المتقدّم مستفاد من كلامها عليها السلام.

ويُستفاد البرهان المتقدّم أيضاً من قول أمير المؤمنين عليه السلام: «اللَّه عزّ وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض … «أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» «2»

… وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة..» «3»

ومثلها عن الإمام أبي الحسن موسي عليه السلام «4».

فاذا كانت معرفة العقل هي بوسيلة الآيات والتوجّه إليها والتدبّر فيها يحصل التوجّه مآلا إليه تعالي، ومعرفة العقل والقلب هي الإيمان وهي عبادة العقل والقلب؛ لأنّ الإيمان إخبات وتسليم وإذعان وخضوع وانقياد وهو معني العبادة، ومن ثمّ أُشير في تفسير قوله تعالي: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» «5»

، أي (ليعرفون) ففُسّرت العبادة بالمعرفة، كما في النصوص المستفيضة وتفاسير الفريقين؛ لأنّ المعرفة والإيمان من العقل، يعني عدم إباءه وعدم جحوده وعدم تمرّده وطوعانيته وخضوعه للحقّ، وهو حقيقة العبادة المتصوّرة من جوهر العقل، فإذا كانت معرفة التوحيد والعبادة التوحيدية في العقل لا تقام إلّابالتوسّل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 157

بالآيات والتوجّه إليها وقصدها ليحصل إليه تعالي فهي بابه الأعظم الذي منه يُؤتي، فبماذا يلهج هؤلاء السلفية وأنّي يُصرفون عن التوجّه إلي الوسيلة ويزعمون أنّهم يتوجّهون مباشرة إليه تعالي؟ وهل وجدوا من أنفسهم أنّهم أقرب الخلق إليه تعالي، وإذا كان هذا حال

العقل فكيف بمن دونه؟

فالعبادة لا تقتصر علي بدن الإنسان وحركاته، ولا علي النفس وأفعالها الجانحية من النية والقصد، بل يعمّ عبادة أفعال العقل والقلب والروح، وإذا كانت هذه الثلاثة التي هي أقرب إلي اللَّه تعالي تحتاج في عبادتها بل مطلق قصدها وتوجّهها إلي اللَّه تعالي إلي التوجّه إلي الآيات وقصدها، فكيف بما دونها، وإذا كان للآيات أخطر دور في علاقة العبد بالباري وهو مقام المعرفة وأنّ معرفتها معرفته تعالي والتوجّه إليها توجّه إليه تعالي، يتّضح أنّ آياته الكبري هي بابه الأعظم الذي منه يُؤتي ومنه الوفاد إلي الحضرة الإلهية.

وبذلك يتّضح ما ورد «بنا عُبد اللَّه وبنا عُرف» «1».

ومنها: تعاضد دلالة آية الوسيلة مع السابقة الدالّة علي كون الآيات مفتاح أبواب السماء ومفتاح دخول الجنّة، حيث دلّت علي أنّ الآيات الإلهية ممّا يتوجّه بها إليه تعالي، وأنّها مفتاح التوجّه والسير إليه عزّ شأنه، والآية هي العلامة الدالّة، فيتطابق معناها مع الاسم؛ لأنّ الاسم من الوسم وهو العلامة أيضاً.

فتكون الآيات الإلهية هي أسماءه الحُسني التي قال عنها تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «2»

فأتي في الآية بلفظ الجمع، ممّا يدلّ علي كثرتها، مع أنّ اللَّه هو الواحد الأحد، فالأسماء كثرة لكن المسمّي هو الواحد الأحد، فهي دوال عليه.

وهذه الدلالة هي حقيقة الآيات؛ إذ العبادة للمسمّي الواحد الأحد، لا للكثرة ولا للأسماء ولا للآيات الدالّة عليه، كما يستفاد هذا البيان العقلي من قول الإمام الصادق عليه السلام، من صحيحة هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن أسماء اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 158

واشتقاقها: «اللَّه ممّا هو مشتقّ؟ فقال: يا هشام، اللَّه مشتقّ من إله وإله يقتضي

مألوهاً، والاسم غير المسمّي، فمن عبد الاسم دون المعني فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعني فقد أشرك وعبد اثنين، ومن عبد المعني دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت ياهشام؟

قال: قلت: زدني. قال: للَّه تسع وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمّي لكان كلّ اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معني يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلها غيره. يا هشام، الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعدائنا المتّخذين مع اللَّه غيره؟ قلت: نعم. فقال: نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام.

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتّي قمت مقامي هذا» «1».

فإذاً، تبيّن أنّ الأسماء الحُسني التي يُدعي بها الربّ ويُتوجّه إليها وبها إليه، وهي الأبواب التي منها يُقصد وهي الآيات الكبري التي أُمر العباد بتصديقها والخضوع لها والتوجّه بها، وأُنذروا عن التكذيب بها والاستكبار عنها، وهي حججه المصطفين، وهي كلماته التامّات.

كما أُطلق لفظ الآية والكلمة علي عيسي، في قوله تعالي: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «2»

وكما في قوله تعالي في وصف يحيي أنّه مصدّق بعيسي، خطاباً لزكريا: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «3»

، فأطلق علي عيسي أنّه الكلمة التي يُصدق بها، نظير الأمر بتصديق آيات اللَّه وعدم التكذيب بها، كما ورد في وصف مريم: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ» «4»

،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 159

فغاير بين الكلمات والكتب، فجعلت الكلمات مقابل الكتب، وأنّها عليها السلام صدّقت بالكلمات.

فيظهر من ذلك: إنّ الكلمات التي يُصدّق بها وكذا الآيات التي لا يصدق بها ولا يكذّب بها، لأنّ التكذيب والتصديق للخبر، فالآية التي توصف بذلك هي ذات مؤدّي خبري وهو الحجّة المنصوب من

قبله تعالي يخبر عنه، فالحجج المصطفون هم الآيات التي لا يُكذّب بها ولا يُستكبر عنها، كما قد أطلقت علي النبيّ عيسي ليتبين أنّ المراد بها هم الحجج الذين اصطفاهم اللَّه، كما أنّهم هم الأسماء الحسني التي يُتوسّل بها ويتوجّه، ويُدعي الربّ بها، بعد ما تبين تطابق معني الاسم والآية والكلمة في أصل المعني لغةً بمعني العلامة الدالّة.

ثمّ إنّ الآية الأُولي، وهي قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

، دالّة علي القاعدة الثانية والثالثة، ولا تقتصر دلالتها علي القاعدة الأُولي.

إنحصار إجابة الدعاء بطلب النبيّ صلي الله عليه و آله منه تعالي: … ص: 159

وذلك لأنّه إذا كان التوسّل والتوجّه بالنبيّ شرط في التوبة لكلّ من أذنب من هذه الأُمّة، بل اشترط علاوة علي ذلك في قبول التوبة تشفّع وشفاعة الرسول ووساطته، والتوبة من العبد هي الأوبة والإياب والرجوع إلي الساحة الإلهية بتوطين النفس علي الطاعة والانقياد وترك التمرّد والإعراض، فماهية التوبة ذاتياً الخضوع العبادي والانقياد القربي، وبالتالي فهذان الشرطان، وهما: التوجّه بالنبيّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 160

وشفاعة النبيّ صلي الله عليه و آله دخيلان في قبول هذه العبادة؛ إذ توبة اللَّه علي العبد التي هي معني (لوجدوا اللَّه تواباً رحيماً) هو قبول الباري لهذه العبادة وإقباله علي العبد بالرحمة وفيض الكمالات والعطاء بالمنح والهبات والفضل العميم والمنّ الكثير.

والأوبة من العبد في حقيقتها هي حالة وصفة الانقياد السارية في حقيقة كلّ العبادات؛ لأنّ كلّ عبادة هي نمط من الانقياد والخضوع وقوامها بذلك، فإذا كانت السنّة الإلهية في الانقياد هي اشتراطه بالتوجّه والتوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وليس مجرّد ذلك فقط، بل لابدّ من قيام النبيّ صلي الله عليه و آله بالشفاعة والتشفّع لدي اللَّه في قبول عبادات أُمّته كي

يقبلها الباري.

فلا يكفي الحُسن الذاتي لعبادة العبد وهو ما يعرف بالحسن الفعلي- ولا يكفي ضمّ الحُسن الفاعلي أيضاً وهو انقياد العبد إلي اللَّه وإلي نبيه بالتوجّه إليهما والتوسّل برسوله- بل لابدّ من ضمّ وساطة الرسول وشفاعته وتشفّعه لدي اللَّه في قبول عبادات أُمّته، والعبادات أعظم أعمال الأُمّة، ولابدّ من تشفّعه صلي الله عليه و آله لدي الباري كي يقبل عبادات وأعمال الأُمّة، وهذا وجه قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «1»

.فوصف تعالي نبيه بالرحمة الواسعة العظيمة الشاملة لكلّ العالمين والعوالم؛ إذ العالم هو اسم جمع، فكيف بجمع الجمع؟ وكيف مع دخول (ال) للاستغراق؟

فمن ثمّ كان صاحب الشفاعة الكبري والوسيلة العظمي، كما ورد في روايات الفريقين.

وهو وجه قوله تعالي: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» «2»

، وصلاته علي الأُمّة دعاءه وتشفّعه لدي اللَّه في حق أمته ومثله قوله تعالي: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 161

أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» «1»

، فخلع تعالي عليه خلعة ربانية عظيمة، وهي وصفين من الأسماء الحُسني: الرؤوف والرحيم «2»، وقال تعالي في وصفه صلي الله عليه و آله: «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» «3»

.فكرّر تعالي في وصفه صلي الله عليه و آله بأنّه: الرحمة الإلهية والأمان للمؤمنين. وقال: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» «4»

، فاشترط تعالي لحصول محبّته لعباده اتّباع نبيّه.

حقيقة التوسّل والتوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله تقديمه أمام التوجّه والطلب من اللَّه تعالي، وهو معني الوفادة به علي اللَّه: … ص: 161

فيُعلم من ذلك أنّ الأُمّة في وفودها علي باريها بعباداتها وأعمالها لابدّ عليها من أن تأتي إلي باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتي، وهو سيّد أنبياءه، ومع كلّ ذلك لابدّ لكي يعود الربّ تعالي بالرحمة علي هذه الأُمّة، ولكي يقبل وفادتها إليه، أن

تفد بنبيّها وتقدّمه بين يدي اللَّه، وبعبارة أُخري: إنّ التوجّه بالشي ء لغةً عبارة عن جعله وجهاً وأماما وإماماً، فالتوجّه بالنبيّ عبارة عن جعله الوجه المتقدّم للوفود علي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 162

الساحة الربوبية، وكذلك معني التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله لغةً فان معني الوسيلة هو بالتوجّه إليها أوّلًا ليمهّد ويوطّد ويهيّئ له الوصول إلي الشي ء الآخر، وليس معني التوسّل بالوسيلة الإعراض عن التوجّه إليها بالتوجّه مباشرة إلي الغاية والمنتهي؛ فإنّ هذا ترك للأخذ بالوسيلة.

ولابدّ في كلّ ذلك من أن يشفع لهم النبيّ صلي الله عليه و آله لدي الباري تعالي، ويطلب منه ويسأله في قضاء حوائجهم، وشفاعته وبابيته ووساطته لا تقتصر علي محو ذنوب الأُمّة، بل وكذلك تشمل في نيل الدرجات والمقامات، بل لا يقتصر ذلك علي هذه الأُمّة، بل تعم جميع الأُمم من الأوّلين والآخرين.

وساطة النبيّ وشفاعته في نيل جميع الأنبياء والمرسلين للنبوّة والمقامات: … ص: 162

بل تعم جميع الأنبياء والمرسلين، كيف لا؟ ولم يعطِ الباري تعالي نبوّة لنبيّ من الأنبياء إلّابعد تسليمهم لولاية النبيّ وطاعته والخضوع له، وأخذ في ذلك عليهم العهد المغلظ الشديد، ولم يكتفِ بذلك، بل أشهدهم علي ذلك، وأشهد عليهم ذاته الأزلية، وهذا مفاد قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

، فالميثاق الذي أخذه اللَّه علي النبيّين هو علي ولما أتاهم من نبوّة وحكمة، وفي مقابل ذلك شرط عليهم وأخذ العهد علي أن يؤمنوا ويتدينوا بنبوّة سيد الرسل، وبأن يلتزموا بمناصرته وطاعته وموالاته، ثمّ أخذ تعالي بعد ذلك الميثاق، أخذ الإقرار والالتزام والتعهّد منهم بتلك المشارطة والمعاوضة، ثمّ في المرتبة الثالثة شدّد

عليهم عهده، وغلّظ، وبيّن عظمته، ثمّ في المرتبة الرابعة أشهد عليهم.

فلم يستحصل الأنبياء علي النبوّة والكتاب والحكمة فضلًا عن بقية المقامات الغيبية إلّابالموالاة والطاعة والخضوع لسيد الأنبياء، والتوجّه به إلي اللَّه، فشفاعته صلي الله عليه و آله يضطرّ إليها جميع الأنبياء والمرسلين فضلًا عن جميع الأُمم، فنيل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 163

كلّ مقام للأصفياء المصطفين لا يتمّ لهم إلّابالتوجّه إلي باب اللَّه الأعظم، وهو سيد الأنبياء.

ويشير إلي توسّل الأُمم السابقة بسيد الأنبياء ما في قوله تعالي: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الْكَافِرِينَ» «1»

، والآية نازلة في اليهود، حيث كانوا يؤمنون بمجي ء خاتم الأنبياء من قبل، وكانوا في حروبهم مع الكفّار يستفتحون بالنبيّ ويتوسّلون به إلي اللَّه؛ لكي ينزل النصر عليهم، فلمّا جاءهم النبيّ صلي الله عليه و آله الذي يعرفونه وكانوا يتوسّلون به كفروا به، فمفاد الآية أنّ مقتضي الإيمان بخاتم الأنبياء هو الاستفتاح به.

والاستفتاح هو طلب الفتح لكلّ باب من أبواب البركة والنصر والخير والسعادة والنعيم والنصر، وكلّ فوز عظيم وغنم جزيل، فالاستفتاح ينطوي علي معني طلب الفتح والمفتاح، وقد تقدّم قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «2»

، حيث بينت هذه الآية أنّ الإيمان بآيات اللَّه والتصديق والإقبال والتوجّه إليها وتعظيمها هو المفتاح الذي تُفتح به أبواب السموات، أي أنّه الباب الذي يفتح منه كلّ باب، فهو باب الأبواب وباب اللَّه الأعظم، وقد أقرّ الباري تعالي استفتاح أهل الكتاب بالنبيّ، وأنّ ذلك من تشريع اللَّه لهم في

الديانة التي بعث بها أنبيائهم في جميع الشرائع السماوية السابقة، أي أنّ التوسّل والتوجّه بسيد الرسل صلي الله عليه و آله كان من الدين الواحد المتّفق الذي بُعث به جميع الأنبياء علي اختلاف شرائعهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 164

كيف لا يكون سيد الأنبياء استفتاح لكلّ شي ء بعد اسم اللَّه مع أنّ كلّ شي ء يستفتح ب (بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، إلّاأنّ فتح هذا الاستفتاح لابدّ أن يقرن باسم الحبيب المصطفي، فهو صلي الله عليه و آله استفتاح لكلّ خير ولنيل كلّ مقام وفضل وكمال وإسعاد، كيف لا يكون ذلك وقد تقدّم قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ..» «1»

، إن جميع الأنبياء استأهلوا النبوّة بشرف الإقرار بولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وولاية عليّ عليه السلام كما سيأتي.

وقد روي الفريقان: أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة ما كان اللَّه ليغفر له لولا توسّله وتوجّهه إليه تعالي بسيد الأنبياء وأهل بيته «2»، وهي الكلمات التي تلقّاها في قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ» «3»

، بل ورد أنّ هذه الكلمات هي الكلمات التي امتحن بها إبراهيم فأُعطي مقام الإمامة، كما في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ..» «4»

، ويُشاهد أنّ التعبير ورد (بكلمات) لا بكلمه، أي بصيغة الجمع.

وقد تقدّم أنّ الكلمة أُطلقت علي النبيّ عيسي، وتصديق مريم بالكلمات أُطلقت علي أولياء اللَّه الحجج في مقابل التصديق بكتبه، وأنّ (الكلمة) متطابقة مع (الآية)، وقد أطلقت (الآية) علي النبيّ عيسي. فظاهر التعبير بالجمع في الكلمات التي تلقّاها آدم، والتي قد رويت في طرق أهل سنّة الجماعة أنّه النبيّ صلي الله عليه و آله-

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 165

والجمع يقتضي أنّه سيد الأنبياء، وكذا أهل بيته الذين قُرنوا

معه في آية التطهير وأُشركوا معه في إرادة الربّ بتطهيرهم، كما قُرنوا معه صلي الله عليه و آله في احتجاج اللَّه بهم علي أهل الكتاب، أي أنّهم حجّة للَّه علي أهل الكتاب والأُمم إلي يوم القيامة، كما شهد لهم القرآن بأنّهم يعلمون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون كما ورد في سورة الواقعة- فهم أصحاب وصف التطهير في هذه الأمة بتخصيص القرآن.

كما يعطي امتحان إبراهيم بتلك الكلمات أنّ أُولئك الحجج الذين امتُحن بهم النبيّ إبراهيم هم ممّن نال مقام الإمامة بالتوجه بهم إلي اللَّه والتصديق والإقرار والتسليم بولايتهم.

وقد مرّت دلالة آية الميثاق علي النبيّين أنّهم لم ينالوا مقام النبوّة إلّابالتصديق والتسليم لولاية سيد الأنبياء، كما قد تقدّم في المقالات السابقة من هذا الفصل أنّ جملة من الآيات القرآنية في السور المتعدّدة دلّت علي أخذ ولاية عليّ عليه السلام في أُصول الدين الواحد، وهو الإسلام الذي بُعث به جميع الأنبياء من آدم إلي النبيّ عيسي، وإن اختلفت شرائعهم.

ومنها: قوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

وهذه الآية وإن خصّها جمع من مفسّري الفريقين في الشأن العام السياسي، ولكنّ الصحيح كما بسطنا الكلام فيه في ما تقدّم- أنّها في مطلق شؤون الدين؛ إذ طاعة اللَّه لا تُحدّ بحدود، بل هي بسعة الدين كلّه، فكذلك طاعة الرسول وأُولي الأمر، لا سيما أنّ الأمر المراد منه هو الأمر المتنزّل في ليلة القدر، كما في سورة القدر والدخان والنحل وغافر، وغيرها من السور.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 166

معني شرطية الولاية في صحّة العبادات: … ص: 166

فالأمر في (أولي الأمر) عالم الأمر من الملكوت، وكما في سورة الشوري:

«رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» «1»

، فأصحاب وأولياء الأمر هم أصحاب روح القدس الأمري، هؤلاء طاعتهم بتبع طاعة الرسول،

وطاعته صلي الله عليه و آله بتبع طاعة اللَّه تعالي، وهي في كلّ دائرة الدين، ومنها أبواب العبادات، فكما يتعلّق الأمر الإلهي بالعبادات كالصلاة وغيرها، فكذلك الأمر النبوّي والأمر الولوي قد تعلّق برسم حدود العبادات وأجزاءها وشرائطها، ولذلك فقد اشتملت العبادات علي فرائض إلهية وسنن نبوية وسنن ولوية، والقرب العبادي للَّه تعالي في العبادة وإن لم يذكر في علم أُصول الفقه لا يتمّ إلّابطاعة الأصناف الثلاثة من الأوامر في العبادات، فالطاعات الثلاث هي التي تحقّق القرب العبادي للَّه تعالي، وهذا بيان آخر لكون التوجّه بهم يحقّق القرب إلي الباري تعالي وبدونه لا يتحقق.

وبعبارة أُخري، أنّه قد حُرّر في مبحث التعبّدي والتوصّلي في علم أُصول الفقه: قوام العبادية في العبادات بنية القربي، وأنّ نية القربي هي قصد للمسبّب لا تحصل إلّابنية وقصد السبب، وهو قصد امتثال الأمر الإلهي المتعلّق بالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من العبادات، حيث إنّ قصد المكلّف كونه ماثلًا أمام الإرادة الإلهية وخاضعاً وطائعاً للأمر الإلهي، يوجب الزلفي والاقتراب من الساحة الإلهية.

وما ذكره علماء الأُصول وإن كان متيناً، إلّاأنّهم لم يستوفوا تمام أطراف البحث، فإنّ العبادات كما قد تعلّق بها الأمر الإلهي ك: (أقيموا الصلاة) و (آتوا الزكاة) و (كتب عليكم الصيام) و (قاتلوا في سبيل اللَّه) وغيرها من الأوامر الإلهية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 167

المتعلّقة بالعبادات، فكذلك قد تعلّق الأمر النبويّ بتلك العبادات؛ فإنّ جملة عديدة من أجزاء العبادات إنّما هي سنن نبويّة بأمر منه صلي الله عليه و آله، نظير السبع الركعات التي أمر بها صلي الله عليه و آله في الفرائض، كما روي ذلك الفريقان، ومن الواضح حينئذٍ، أنّ صحّة الصلاة اليومية مثلًا متوقّفة علي امتثال أمر الرسول صلي الله عليه و آله أيضاً.

فقصد

امتثال الأمر يعمّ كلّ من أمر اللَّه تعالي وأمر رسوله في العبادات، والامتثال والطاعة هي شاملة لكلّ من امتثال وطاعة أمر اللَّه وأمر رسوله.

وكذلك الحال لأُولي الأمر المتنزّل في ليلة القدر، فإنّ جملة غفيرة من الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء إنّما هي بأوامر أئمّة أهل البيت عليه السلام ومنهاجهم وهديهم، فالعبادة والصلاة والصوم والزكاة وغيرها لابدّ أن يؤتي بها علي صورة منهاجهم وهديهم وطريقتهم، وذلك بامتثال أوامرهم المتعلّقة بالعبادات.

فيتّضح بذلك أنّ قصد الأمر المحقّق لنية القربي في العبادات الذي ذكره علماء الفقه والأُصول لابدّ أن يعمّ الأوامر الثلاثة، وأنّ الامتثال والطاعة في عبادية العبادة هي لكلّ من أمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أولياء أمره.

وبذلك تتحقّق العبادة الخالصة للَّه تعالي وحده من دون استكبار النفس، وهو الذي أخفق فيه إبليس اللعين حينما ترك التوجّه بآدم في العبادة. ويتّضح عموم آية الطاعة للعبادات ولدائرة الدين، وأنّ هذا المعني قراءة جديدة لمعني أخذ ولايتهم عليهم السلام في صحّة العبادات.

ثمّ إنّه قد اتّفقت كلمات فقهاء الإمامية علي رجحان دعاء التوجّه قبل تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل جملة كلمات المتقدّمين والمتأخّرين علي رجحانه بعد تكبيرة الإحرام قبل قراءة الحمد، وهي فتوي بالنصّ المأثور «وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، علي ملّة إبراهيم ودين محمّد صلي الله عليه و آله ومنهاج عليّ، حنيفاً مسلماً

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 168

وما أنا من المشركين» «1»

.وفي النصّ الآخر بعد ومنهاج عليّ «والائتمام بآل محمّد حنيفاً مسلماً» «2»

.وفي بعض النصوص «وهدي عليّ أمير المؤمنين عليه السلام» «3»

.وفي مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: «اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة بلّغ محمّداً صلي الله عليه و آله الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة، باللَّه استفتح وباللَّه أستنجح، وبمحمّد رسول اللَّه صلي الله

عليه و آله أتوجّه، اللهم صلّي علي محمّد وآل محمّد، واجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين» «4».

وقد اتّفقت أيضاً- كلمة جمهور مذاهب المسلمين علي رجحان التسليم علي النبيّ صلي الله عليه و آله بلفظ: «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته» وذلك قبل التسليم المُخرِج من الصلاة، أي أنّ التسليم علي النبيّ صلي الله عليه و آله يأتي به المصلّي ولمّا يخرج بعد من الصلاة.

ومؤدّي هذا التسليم من المصلّي وهو في صلاته أنّه زيارة من المصلّي إلي النبيّ صلي الله عليه و آله من كلّ الأُمّة، من كلّ مؤمن ومسلم، في اليوم خمس مرّات، بل في كلّ صلاة يأتي بها، كما أنّ هذه الزيارة والتسليم للنبيّ ينطوي علي مخاطبة النبيّ ب (كاف) الخطاب، كما ينطوي علي نداء النبيّ ومخاطبته صلي الله عليه و آله ب (ياء) النداء القريب:

«أيّها».

وهذا كلّه من التسليم والزيارة للنبيّ صلي الله عليه و آله ومخاطبته بالنداء القريب والمصلّي في صلاته ونجواه لربّه وخطابه مع بارئه، ففي محضر الوفادة الربانية والضيافة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 169

الإلهية يتوجّه المصلّي بالالتفات لنبيّه؛ إذ هو باب اللَّه الأعظم، فكما بدأ صلاته بالإقرار بالرسالة للنبيّ صلي الله عليه و آله بعد الإقرار بالتوحيد في الأذان والإقامة وتوجّه به في بدو الصلاة، عاود التوجّه إليه وبه إلي اللَّه، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المؤمن إلي ربّه ونجواه مع خالقه يزدلف إلي ربّه بالولاية لنبيّه والتعظيم له وتوقيره.

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ

الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1»

، وقال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ» «2»

.فتري ما أوجب تعالي من التعظيم والمهابة لنبيّه أن افترض عدّة من السنن والآداب والخضوع في محضر النبيّ، جعل جزاء الإختلال بها ولو كرفع الصوت- حبط جميع الأعمال، وأنّ تعظيم النبيّ وإجلاله هو من تقوي القلوب، وأنّ الذين يستخفّون بمقام النبيّ ليس لهم شعور ولا عقل، أي من زمرة البهائم.

وكلّ هذا التعظيم الإلهي بمراسم ورسوم في سنن الآداب الإلهية لنبيّه لم يرد في حقّ نبيّ من الأنبياء، فهذا المحلّ من القدس من الباري هداية منه تعالي إلي الباب الذي منه يُؤتي، وجعل تعالي الصدّ عن هذا الباب الأعظم وعن الالتجاء إليه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 170

من صفات المنافقين، حيث قال: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «1»

.كما قرن تعالي رضاه برضي رسوله، فقال: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ» «2»

، فجعل باب رضاه رضي رسوله، كما قرن حبّه بحبّ رسوله، فقال: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» «3»

، فجعل محبّة الرسول باب لمحبّته، فلم يقتصر تعالي

علي حبّ العبد له، ولا علي مجرّد حبّ الأعمال الصالحة، بل اشترط أن يُقرن بحبّ الرسول، كما اشترط في الهجرة إلي اللَّه الهجرة إلي الرسول، فقال تعالي: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» «4»

، فجعل باب الهجرة إليه تعالي بابها الهجرة إلي الرسول والهجرة سفر وقصد وتوجّه.

والتوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله شرط زائد علي شرطية الإيمان به، كما مرّ في قوله تعالي:

«إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا …» «5»

، هو الإقرار بولاية النبيّ والإخبات والخضوع لها، إذ الولاية مجموع كلّ من التصديق والطاعة، حيث تضمن الميثاق علي النبيّين، «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» «6»

، وقد عُبّر عن الاستفتاح به صلي الله عليه و آله أيضاً بقوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «7»

أي أنّه صلي الله عليه و آله يستمطر به كلّ رحمة لكلّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 171

عالم من العوالم والنشآت، فهو باب اللَّه الأعظم الذي تجري منه الرحمة الإلهية، وقد قرن اللَّه تعالي ولايته بولايته، فقيّد جلّ آيات الأمر بطاعة اللَّه بطاعة النبيّ صلي الله عليه و آله، فجعل التمرّد علي ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله عين التمرّد علي ولاية اللَّه وطاعته.

كما قرن طاعته وطاعة رسوله بطاعة أُولي الأمر، حيث قال تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

، فجعل باب النبيّ هو أهل بيته، وباب طاعة النبيّ طاعة أهل بيته، وباب حبّ النبيّ صلي الله عليه و آله حبّ أهل بيته، وباب الهجرة إلي النبيّ الهجرة إلي أهل بيته، وباب رضا النبيّ رضا أهل بيته، وقد أوضح أصحاب هذا الأمر أنّهم الذين يتنزّل عليهم الأمر في

ليلة القدر في كلّ عام إلي يوم القيامة، حيث قال تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «2»

وقال تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «3»

، وقال تعالي: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «4»

.فالأمر هذا هو روح القدس، وأصحابه هم الذين يتنزّل عليهم هذا الروح في ليلة القدر، كما سيأتي تفصيله في الفصل السابع. وأنّهم أصحاب علم الكتاب المطهّرون في هذه الأُمّة بشهادة آية التطهير وهم أهل البيت عليهم السلام.

فقرن طاعتهم عليهم السلام بطاعته صلي الله عليه و آله، وولايتهم عليهم السلام بولايته صلي الله عليه و آله، يقتضي إرادتهم من لفظ الآيات في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 172

أَبْوَابُ السَّمَاءِ …» «1»

.تبيّن ممّا مرّ أنّ التصديق بالآيات والتوجّه والخضوع لها عبارة عن التسليم لولايتهم؛ لأنّ مقتضي كلّ من كون التسليم لولاية الآيات مفتاح أبواب السماء، مع جعل النبيّ استفتاحاً في شرائع الأنبياء يُستفتح به، وإطلاق الآية علي النبيّ عيسي هذه الأُمور الثلاثة وغيرها من الشواهد المتقدمة نظير ما مرّ من أن الآية التي يصدق بها هو صاحب المنصب إلالهي الذي يخبر عن اللَّه تعالي، لا الآية التكوينية فإنّه التعبير عنها ورد وهم عنها غافلون، وكذا ما تقدّم من اطلاق الكلمات علي النبيّ وأهل بيته، كلّ ذلك يقتضي إرادة سيد الأنبياء من تلك الآيات وولاية أهل بيته الذين قرنت ولايتهم بولايته، وأنّ أهل البيت هم الباب لسيد الأنبياء.

وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ عليّاً باب مدينة الرسول: «أنا مدينة العلم

وعليّ بابها» «2»

، وقد نزّلت آية المباهلة عليّاً بمنزلة نفس النبيّ صلي الله عليه و آله، ذلك في قوله تعالي: «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» «3»

.فحقيقة الطاعة للرسول وأُولي الأمر الخضوع والتسليم والانقياد والتعظيم له ولهم سلام اللَّه عليهم، وقد تقدّم أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم من نصوص الفريقين منها اسم النبيّ صلي الله عليه و آله.

فيتبيّن من ذلك أنّ هناك أسماء أُخري توجّه بها آدم ليتوب اللَّه بها عليه، كذلك في الكلمات التي امتحن بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة، الامتحان كان بكلمات، لا بكلمة واحدة، وأنّ هناك جناس في لفظ (الكلمات) في قصّة آدم وإبراهيم عليهما السلام، فهناك أسماء مقرونة مع اسم النبيّ، وولايتها مقرونة بولاية النبيّ صلي الله عليه و آله، فعسي من تكون تلك الأسماء غير أهل بيته الذين قُرنوا به في جملة المقامات الإلهية، كآية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 173

الطاعة والولاية، وآية التطهير، وآية الاحتجاج في المباهلة، وآية شهادة الأعمال في قوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «1»

، فهؤلاء الشهداء علي جميع الناس هم من نسل إبراهيم وعلي ملّة أبيهم إبراهيم، وقُرنوا مع النبيّ في الشهادة، إلّاأنّ النبيّ شاهد عليهم.

وهم الذرّية كما دعا إبراهيم ربّه أن تكون الإمامة في ذرّيته: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2»

، فهم المقصودون من قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «3»

، فيتوجّه بهم إلي رسول اللَّه وإلي اللَّه تعالي، كما يتوجّه بالرسول إلي اللَّه، وقد قال تعالي: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «4»

، وقال

تعالي: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «5»

، وقال تعالي: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «6»

.فبيّن تعالي أنّ مودّتهم وتولّيهم وولايتهم نفعها عائد إلي الأُمّة نفسها؛ وذلك لأنّ مودّة وولاية أهل البيت السبيل والوسيلة إلي اللَّه تعالي، فهذه الآيات بمنزلة مفاد آية الوسيلة مع تعيين لهوية الوسيلة، ومن ثمّ ورد في الزيارة الجامعة: «ومن وحّده قبل عنكم، ومن قصده توجّه بكم» «7»

وهذه الفقرة إشارة إلي القواعد الثلاثة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 175

بقاء جميع الكتب السماوية بهم عليهم السلام دعاته تعالي إلي كتبه … ص: 175

إنّ إحدي مقاماتهم عليهم السلام في الديانة الإلهية هو كونهم دعاة اللَّه إلي جميع كتبه وصحفه السماوية المُنزّلة، وهم حفظة تلك الودائع؛ إذ قد تبيّن من المقالة السابقة «1»: إنّ الدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ» «2»

، وهو الذي بُعث به جميع الأنبياء والرسل من آدم عليه السلام إلي النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وإنّ الاختلاف بين بعثات الأنبياء إنّما هو في الشرائع، حيث قال تعالي: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «3».

والدين عبارة عن مجموعة من العقائد الحقّة وأركان الفروع وأُصول الواجبات والمحرّمات. وأمّا الشريعة، فهي تفاصيل التشريعات الفرعية. وإذا تبيّنت هذه النقطة تبيّن لك أنّ الصحف والكتب السماوية المنزّلة بما أنّ جملة وعمدة ما اشتملت عليه هو في العقائد وأركان الفروع وشطر يسير منها في الشريعة وتفاصيل الفروع.

فيتبيّن من ذلك أنّ الجملة الغالبة ممّا اشتملت عليه تلك الكتب غير منسوخ بل ثابت وماضٍ إلي يوم القيامة؛ لأنّه لا نسخ في الدين ودائرته وهو الإسلام، وإنّما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 176

النسخ في شرائع الأنبياء السابقين، وبالتالي يلزم الإيمان والتصديق بتلك الكتب والتقيّد بما فيها ممّا كان من دائرة

الدين، لا من دائرة الشريعة المنسوخة، كما قال تعالي: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» «1»

، قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَي رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا» «2».

لكن لا النُّسَخ المحرّفة عند أتباع وأُمم الأنبياء، بل النُّسَخ المصونة عن التحريف المُودعة كمواريث عند الأوصياء وهم أهل بيت النبوّة عليهم السلام، كما سيتبيّن من الآيات الآتية، ومن ثمّ يتجلّي بقاء قدسية الكتب والصحف السماوية غير المحرّفة لوحدة الدين عند أصحاب الكتب، وهم الأنبياء والرسل المبعوثون بها.

غاية الأمر أنّ بين الكتب السماوية تمايز من جهة أُخري، وهو أنّ المعارف العقائدية في كلّ كتاب دائرتها بحسب مقام ودرجة ذلك النبيّ، قال تعالي: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ» «3»

، وقال تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ» «4»

، وقال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» «5»

، فالعقائد والمعارف الواردة في الكتب الإلهية وإن لم يكن فيها تبدّل أو تغيير، ولا هي قابلة للنسخ، إلّاأنّ كلّ نبيّ وكلّ كتاب يُبعث به يمتاز عن الآخر في سعة ما يُنبئَهُ وضيقه وعمقه وتوسّطه، بحسب مقام ذلك النبيّ ودرجة كتابه الذي تلقّاه عن اللَّه تعالي.

فخاتم الأنبياء حيث كان سيدهم كان كتابه أُمّ الكتب الإلهية والجامع لما فيها

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 177

والمهيمن عليها، إلّاأنّ كلّ ذلك لا يسلب ولا يفقد الكتب الإلهية غير المحرّفة الأُخري قدسيتها وحقانيتها ولا درجات مواقعها التي هي فيها، ومن ثمّ نجد إشادة القرآن الكريم ومديحه لها، كما قال

تعالي: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّي* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّي* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي* إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَي* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي» «1»

، وقال تعالي: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» «2»

، وقال تعالي في سياق ما سبق: «وَقَفَّيْنَا عَلَي آثَارِهِمْ بِعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإْنْجِيلَ فِيهِ هُدًي وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًي وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإْنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «3»

، وقال تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ …» «4»

، «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَي شَيْ ءٍ حَتَّي تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» «5»

، وقال تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 178

وَالْقُرْآنِ» «1»

… وغيرها من الآيات.

ومع هذه الموقعية للكتب والصحف المنزلة السابقة، وتأكيد الباري تعالي علي الإيمان بها، فلا يمكن أن تذهب

سدي أدراج الرياح، بل لابدَّ أن تكون محفوظة مودعة عند من أودع علم القرآن عندهم، حيث إنّ الكتب والصحف المنزلة السابقة كلّها كأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين الذي هو أصل حقيقة القرآن، وقد أسند القرآن الكريم علم الكتاب كلّه والكتاب المبين إلي أهل البيت المطهّرين.

فها هنا نقطتان لابدّ من بيانهما:

الأُولي: كون الكتب والصحف المنزلة السابقة هي أبعاض وأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين المكنون، فقد قال تعالي في شأن موسي عليه السلام: «وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2»

، وقال تعالي في شأن عيسي عليه السلام: «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ» «3»

، وقال تعالي في شأن عموم الأنبياء: «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» «4»

، فجعل الكتاب مقابل الفرقان والتوراة والإنجيل، وكذلك في مقابل الحُكْم والنبوّة، مع أنّ عنوان الكتاب قد أُطلق علي التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المنزلة، كما قال تعالي: «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَي الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» «5»

، وقال تعالي:

«ولقد آتينا موسي الكتاب فاختلف فيه» «6».

ولقد أُطلق علي أتباع موسي وعيسي عنوان أهل الكتاب وعنوان الذين أُوتوا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 179

الكتاب كراراً في مواضع كثيرة في السور القرآنية، والذي أوتوه هو التوراة والإنجيل، فأُطلق اسم الكتاب عليهما، نظير ذلك قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» «1»

، وفي مواضع أُخري من القرآن قد وصف الفرقان أو التوراة أو الإنجيل بأنّه بعض الكتاب لا كلّه، كما في قوله تعالي: «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا» «2».

وكرّر هذا التعبير في

سورة النساء مرّتين «3»، ووصفت التوراة في قوله تعالي:

«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

، فلم يكتب فيها كلّ شي ء، بل من كلّ شي ء، وقال تعالي عن وصي سليمان آصف بن برخيا: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» «5»

، فوصف علمه الذي ورثه من سليمان بأنّه علم من بعض الكتاب.

وقال تعالي في شأن الإنجيل وعيسي عليه السلام: «قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «6»

، أنّ فيه بيان بعض ما يختلف فيه بنو إسرائيل، لا بيان كلّ ما يختلفون فيه، مع أنّ القرآن قد وصف بأنّه بيان لكلّ شي ء، فقال تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «7».

فتحصّل أنّ الكتب والصحف المتنزّلة السابقة وإن كانت هي من الكتاب، إلّا أنّها أبعاض وأجزاء له لاتمامه، بخلاف القرآن الكريم حيث يقول الباري:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ»، وقال تعالي: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَارَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 180

الْعَالَمِينَ» «1».

والكتاب والكتاب المبين والكتاب المكنون هو وجود علوي غيبي قد وصف بأوصاف عديدة، كما في قوله: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «2»

، فالقرآن النازل هو تنزيل للكتاب المبين، وقال تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» «3»

، فالقرآن المتنزّل في الصورة العربية هو إنزال للكتاب المبين، والقرآن له وجود علوي الذي هو أُمّ الكتاب.

قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «4»

،

فوصف القرآن بوجود علوي في الكتاب المكنون، وأنّ القرآن النازل هو تنزيل لذلك الوجود العلوي، وقال تعالي: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وقال تعالي: «الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» «6»

، وقال تعالي: «… وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7»

، وقال تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «8».

النقطة الثانية: بيّن تعالي في القرآن الكريم أنّ أهل البيت عليهم السلام يمسُّون الكتاب المكنون كما مرّ في الآية في سورة الواقعة؛ إذ هم أهل آية التطهير المطهّرون دون سائر الأُمّة، وفرقٌ بين المطهّر ذاتاً وخلقةً والمتطهّر بالوضوء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 181

والغسل. وكذا أشار إليه تعالي في سورة الرعد: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

، وهي السورة المكّية التي نزلت في عليّ، وكذا قوله تعالي:

«بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2»

، وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «3»

، فبيّن تعالي أنّ في هذه الأُمّة ثلّة تعلم تأويل الكتاب كلّه؛ لعلمهم بمحكمات الكتاب التي هي أُمّ الكتاب، فيعلمون أُمّ الكتاب فضلًا عن الكتاب المبين، والقرآن بتمامه آيات بيّنات في صدورهم، فلا يشكل عليهم شي ء منه، ولا يكون شي ء منه متشابهاً عليهم، ولأجل ذلك يعلمون الذي تشابه علي

غيرهم من الكتاب، وهو لديهم بيّن.

وقد دلّلت سور الرعد والأحزاب والواقعة علي أنّ أهل بيت النبوّة هم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون الذي هو حقيقة القرآن العلوية، وهو الكتاب المبين، فمن ثمّ لديهم علم الكتاب كلّه لا علم بعض من الكتاب، كما أشارت إلي ذلك سورة الرعد النازلة في علي عليه السلام، وغيرها.

وإذا تبيّنت هاتان النقطتان، يتبيّن أنّ أهل بيت النبوّة حيث يحيطون بالكتاب والكتاب المبين علماً، فهم يحيطون علماً بكلّ الكتب والصحف المنزلة السابقة، وهم حفظتها، فهم الدعاة إلي كتب اللَّه المنزلة، كما جاء في الزيارة الجامعة التي رواها ابن طاووس في مصباح الزائر: «أشهدُ أنكم أبواب اللَّه ومفاتيح رحمته ومقاليد مغفرته وسحائب رضوانه ومصابيح جنانه وحملة فرقانه وخزنة علمه وحفظة سرّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 182

ومهبط وحيه، وعندكم أمانات النبوّة وودائع الرسالة، أنتم أُمناء اللَّه وأحبّاؤه وعباده وأصفياءه، وأنصار توحيده، وأركان تمجيده، ودعاته إلي كتبه، وحرسة خلائقه وحفظة ودائعه».

وفي زيارة الإمام الكاظم عليه السلام: «… وحامل التوراة والإنجيل …».

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في صفة آل محمّد: «هم موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهف كتبه وجبال دينه».

وفي صحيح هشام بن الحكم في حديث بريه: «أنّه لمّا جاء معه إلي أبي عبداللَّه عليه السلام فلقي أبا الحسن موسي بن جعفر عليه السلام، فحكي له هشام الحكاية، فلمّا فرغ قال أبو الحسن عليه السلام لبريه: يا بريه كيف علمك بكتاب اللَّه؟ قال: أنا به عالم. ثمّ قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ أبو الحسن عليه السلام يقرأ الإنجيل. فقال بريه:

إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك … قال أبو عبداللَّه عليه السلام: ذرّية بعضها

من بعض واللَّه سميع عليم. فقال بريه: أنّي لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوا، إنّ اللَّه لا يجعل حجّة في أرضه يُسئل عن شي ء فيقول لا أعلم» «1».

وينبّهنا إلي ما تقدّم من الآيات ونسق الارتباط في دلالتها الموصل إلي تلك النتيجة ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من مسائل عبداللَّه بن سلام للنبيّ صلي الله عليه و آله: «… صدقت يا محمّد فاخبرني إلي ما تدعو؟ قال: إلي الإسلام والإيمان باللَّه.

قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له … قال: وما دين اللَّه؟ قال:

الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال: نعم. قال: فالشرائع؟ قال: كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 183

والرواية صريحة بأنّ الدين واحد، من آدم عليه السلام إلي النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وأنّما التغاير في الشرائع والمنهاج وهي تفاصيل الفروع، كما أنّها تشير إلي أنّ الشهادتين هما من أُمّهات أُصول الديانة الإسلامية التي بُعث بها الأنبياء، وأنّ الإقرار بخاتم النبيّين يتلو التوحيد في أُصول الديانة الواحدة بين النبيّين، والترتيب في أُصول الدين لا يختلف ولا يتخلّف بين نبيّ وآخر؛ لأنّ الدين واحد كمااتّضح.

وأُصول المعرفة الدينية ليست إلّاحقائق واقعية يؤمن بها الإنسان، بل يجب أن يؤمن بها؛ فسلسلة مراتب أُصول الديانة تنبّئ عن موقعية كلّ أصل وأهمّيته وخطورته في الدين الواحد. فمن ثمّ الترتيب في أُصول دين الإسلام الذي بُعث به خاتم النبيّين هو بعينه قد بُعث به جميع الأنبياء والمرسلين، ومن ثمّ فسيادة خاتم النبيّين علي الرسل أصل إيماني في الدين الواحد قد أُخذ الإقرار به في

الدين الذي بُعث به جميع الأنبياء، كما يشير إلي هذه الحقيقة قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1».

وفي رواية عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «أوصي موسي عليه السلام إلي يوشع بن نون، وأوصي يوشع بن نون إلي ولد هارون، ولم يوصِ إلي ولده، ولا إلي ولد موسي؛ إنّ اللَّه تعالي له الخيرة يختار من يشاء ممّن يشاء. وبشّر موسي ويوشع بالمسيح عليهم السلام.

فلمّا أن بعث اللَّه عزّوجلّ المسيح عليه السلام قال المسيح لهم: إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد، من ولد إسماعيل عليه السلام، يجي ء بتصديقي وتصديقكم وعذري وعذركم،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 184

وجرت من بعده في الحواريين في المستحفظين، وإنّما سمّاهم اللَّه المستحفظين؛ لأنّهم استحفظوا الاسم الأكبر، وهو الكتاب الذي يُعلم به علم كلّ شي ء، الذي كان مع الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، يقول اللَّه تعالي: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ …» «1»، «… وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ» «2».

الكتاب: الاسم الأكبر، وإنّما عُرف ممّا يُدعي الكتاب التوراة والإنجيل والفرقان، فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم عليهم السلام، فأخبر اللَّه عزّوجلّ: «إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَي* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي» «3»

، فأين صحف إبراهيم؟ إنّما صحف إبراهيم الاسم الأكبر، وصحف موسي الاسم الأكبر، فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتّي دفعوها إلي محمّد صلي الله عليه و آله..» «4».

وفي الرواية دلالة واضحة علي أنّ الكتاب العلوي ذا الوجود الغيبي الذي هو الاسم الأكبر، يتوفّر علي جميع الكتب السماوية

المنزلة، وأنّها متنزّلة منه، غاية الأمر أنّ إحاطة كلّ نبي وأوصيائه تختلف عن إحاطة النبيّ الآخر وأوصيائه، ومن ثمّ اختلفت الكتب المنزلة عليهم، وحيث كانت إحاطة الرسول الخاتم صلي الله عليه و آله أتمّ إحاطة بالكتاب المبين والكتاب المكنون، كان الكتاب المنزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله هو الكتاب المهيمن علي جميع الكتب، ففي جملة من الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ عيسي بن مريم عليه السلام أُعطي حرفين كان يعمل بهما، وأُعطي موسي أربعة أحرف، وأُعطي إبراهيم ثمانية أحرف، وأُعطي نوح خمسة عشر حرفاً، وأُعطي آدم عليه السلام خمسة وعشرين حرفاً، وإنّ اللَّه تعالي جمع ذلك كلّه لمحمّد صلي الله عليه و آله، وإنّ اسم اللَّه الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، أُعطي لمحمّد صلي الله عليه و آله اثنين وسبعين حرفاً وحُجب عنه حرف

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 185

واحد» «1».

ومن كلّ ما تقدّم يظهر: شطط ما قيل: «كان مذهب جماهير السلف والأئمّة أنّ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل اللَّه في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ، فهكذا القول في جنس الكتب، قال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ … مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «2»» «3».

حيث لم يفرّق بين دائرة الدين الواحد الذي بُعث به جميع الأنبياء والذي لا نسخ فيه بل تكامل وزيادة بيان، وبين الشريعة والمنهاج الذي هو محلّ النسخ، وتخيل أنّ ما تضمّنته الكتب السماوية المنزلة يقتصر علي الشريعة، فهل التوحيد الذي تضمّنته الكتب السماوية قابل للنسخ؟ وكيف حال المعاد كذلك، وكذلك نبوّة الأنبياء؟ مضافاً

إلي ما بشّرت به بنبوّة الخاتم صلي الله عليه و آله، وما أنبئت به من الآخرة والجنّة والنار والعوالم ومطلق المعارف الاعتقادية، هل هو قابل للنسخ؟!

لكن لا عجب في الوقوع في مثل هذا الخلط لمن ترك التمسّك بالثقلين اللذين أمر بهما النبيّ صلي الله عليه و آله، ولا يخفي أنّ هذا القائل قد أسقط في استشهاده تمام الآية؛ لأنّه مناقض لدعواه، إذ لفظها: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا»، فأسقط وصف «مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ»، وليس في الآية لكلّ منكم جعلنا ديناً، بل قال تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ» «4»

، فلاحظ ما تقدّم في صدر المقالة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 187

العصمة النوعية الولاية والإمامة النوعية … ص: 187

اشارة

المعروف لدي مذاهب الصوفية القول بالإمامة النوعية، سواء علي صعيد المقام الباطني وهي الإمامة الملكوتية، أو علي صعيد الإمامة في مقام الظاهر وهي الإمامة السياسية، ويستدلّون لكون الولاية المطلقة نوعية لعموم أفراد الحقيقة الإنسانية، وكون الباب مفتوحاً لكلّ سالك واصل، أنّه يؤهّل لمقام الخلافة العظمي الإلهية إذا طوي منازل السائرين إلي اللَّه، ويستدلّون لذلك بوجوه نقلية وعقلية وكشفية:

أمّا النقلية فبالعمومات الواردة في الكتاب والسنّة، مثل قوله تعالي: «وَاتَّقُوا اللَّهَ ويُعلّمُكُمُ اللَّهُ» «1»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» «3»

، وقوله تعالي: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ» «4»

، وقوله تعالي: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» «5».

ومن السنّة قوله صلي الله عليه و آله: «اتّقوا فراسة المؤمن؛ فإنّه ينظر بنور اللَّه»

«6»

. وما ورد في الحديث: «إنّ اللَّه جلّ جلاله قال: ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشي ء أحبّ إليّ ممّا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 188

افترضتُ عليه، وأنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّي أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته» «1».

وكذلك حديث قرب الفرائض..

وكذلك قوله صلي الله عليه و آله: «من أخلص للَّه أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه» «2».

فكلّ هذه الآيات والأحاديث دالّة علي أنّ أبواب السلوك والسير والمقامات مفتوحة لجميع أفراد البشرية، كمقام الإحسان ومقام التقوي وباب الحكمة والعلم والفرقان، وغيرها من أبواب ولاية اللَّه، فمن أدّي الفرائض وأقامها بحدّها كان عين اللَّه وسمع اللَّه وجنب اللَّه ولسان اللَّه … فضلًا عن مقام قرب النوافل، بل يستطيع الوصول إلي مقام الخلافة الإلهية العظمي فيكون خليفة اللَّه في أرضه وصاحب الولاية المطلقة.

أمّا الدليل العقلي: فلأنّ العقل لا يحيل وقوع الكمالات الممكنة للماهية الإنسانية في أيّ فرد من أفرادها بعد إمكان توفّر الشرائط الحاصلة بالإرادة الاختيارية، وأنّ فيض الذات الأزلية علي استواء مع الذوات القابلة الإمكانية.

أمّا دليل الكشف فيُقرّر بوجوه:

منها: فلأنّ الأسماء الإلهية تطلب الظهور من خلال مظاهر ومجالي، وقد قُرّر في محلّه أنّ مجمع الأسماء هو الحقيقة الإنسانية، وهو مظهر الاسم الجامع وصراط الحقيقة الإنسانية، هو السبيل لظهور جميع الكمالات الأسمائية، ومن ثمّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 189

استحقّ أن يكون خليفة دون بقية الممكنات.

ومنها: إنّ كلّ موجود له إضافة من الجهة التي تلي الربّ، كما قيل إنّ الطرق إلي اللَّه بعدد أنفاس الخلائق، فكلّ ممكن وإن كان في سلسلة التجلّيات والظهورات والصدور والإفاضة يتوسّط بينه وبين الذات

الربوبية الوسائط الإمكانية، إلّاأنّ هذا من الجهة التي تلي الخلق، لا من الجهة التي تلي الربّ، فلكلّ موجود ظهر وبطن، وظهره وإن كان محجوباً بوسائط إلّاأنّ بطنه لا حجاب بينه وبين الواجب.

وأمّا مذهب الإمامية فإنّ عقيدتهم أنّ الإمامة محصورة في العدد الاثني عشر، والولاية المطلقة محصورة بهم بعد خاتم النبيّين، وكذلك الخلافة الإلهية، استدلّوا علي ذلك بالنصوص المتظافرة القرآنية والأحاديث النبوية، وملأوا في ذلك أسفاراً من الكتب.

إلّا أنّنا نذكر نبذة ممّا له صلة خاصّة في المقام ممّا نُصّ فيه علي أنّ هذه المقامات الخاصّة الإلهية ليست كسبية في دار الدنيا وغيرها من النشآت، بل هي وهبية اصطفائية في هذه الدار، وأنّها محصورة بذلك العدد.

أمّا الدليل النقلي، كقوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

، فدلّت الآية كما بسّط ذلك علماء الإمامية في كتب التفسير والكلام- أنّ الذي تقع منه المعصية ظالم لنفسه في بدء كتابة التكليف عليه أو في طول عمره ونهايته، لا يتأهّل لإعطاء الإمامة ولا تكون له قابلية لنيل هذا العهد الإلهي، فلابدّ أن تكون ذاته مطهّرة معصومة من البدو إلي الختم، وهذه القابلية في الذات لا تكون كسبية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 190

وكقوله تعالي: «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» «1»

، فتنفي الآية قابلية الفرد البشري لحمل النبوة أو الإمامة أو الحجّية علي الخلق إذا لم تكن ذاته مأمونة عن الوقوع في الزيغ والانحراف. فالتعبير في الآية الكريمة ليس ما كان ليؤتيه النبوّة، أي ليست في صدد نفي السنّة الإلهية والإفاضة منه تعالي، بل التعبير في صدد نفي

الإمكانية والقابلية (ما كان لبشر).

وكذلك هنا طائفة من الآيات تُدلّل علي أنّ الإمامة في نسل إبراهيم وذرّيته وعقبه باقية إلي يوم القيامة، كقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» «2»

، وقوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ* وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الَّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَي عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي لَكُمُ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 191

الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» «1».

فمجموع هذه الآيات تدلّ علي دعاء إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذرّيته، وعلي استجابة ذلك الدعاء، وبقاء أُمّة مسلمة في ذرّيته

لم تنجسّهم الجاهلية بأنجاسها وأرجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها، وأنّ إمامتهم هي وصية إبراهيم في بنيه وهي اصطفاء اللَّه لهم.

وممّا يشير إلي توارث الإمامة بالإرث الإلهي في خصوص نسل وعقب إبراهيم في هذه الأُمّة دون غيرهم قوله تعالي: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَي وَنِعْمَ النَّصِيرُ» «2»

، فتشير الآية إلي أنّ من نسل إبراهيم عليه السلام أُمّة تكون شهداء علي الناس والرسول عليهم شهيداً، ومقام الشهادة علي الناس أجمعين لا يمكن أن يرقي إليه إلّامن تحلّي بالعصمة علماً وعملًا؛ وإلّا فغير المعصوم من الزلل والخطل والجهل والضلال حقيقٌ أن يُشهد عليه لا أن يشهد علي الناس.

فهذه الأُمّة المسلمة الموحّدة المعصومة الشاهدة علي الناس، أبوها إبراهيم وهي من ذرّيته، وهي المشار إليها في قوله تعالي: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «3»

، أي أُخرجت من عقب إبراهيم عليه السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 192

وكذلك قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» «1».

وليس المراد بالأُمّة الوسط الأُمّة الإسلامية جمعاء؛ فإنّ فيها من لا تُقبل شهادته علي بقلة خضار، فكيف يشهد علي جميع أعمال الناس يوم يقوم الأشهاد؟ ومن أين له العلم والإحاطة بأعمال الناس كي يقوم بأداء الشهادة يوم الحساب؟ فهذه الأُمّة الوسط هي التي أُشير إليها في آخر سورة الحجّ في قوله تعالي: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ

عَلَي النَّاسِ» «2»

، وهي الذرّية التي دعي إبراهيم بأن تكون مسلمة في قوله:

«رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً» «3»

، والتي دعي ربّه أن يجعل الإمامة فيها في قوله تعالي: «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» «4»

، وهي التي دعي إليها إبراهيم في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ* رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَي عَلَي اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاة وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ» «5»

، وهذه الذرّية هي التي سلّم اللَّه عليها في قوله تعالي: «سَلَامٌ عَلَي إِلْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 193

يَاسِينَ» «1»

، أي آل محمّد صلي الله عليه و آله؛ لأنّ ياسين اسم للنبيّ صلي الله عليه و آله سمّاه به القرآن الكريم في سورة يس، وهم الذين نزلت فيهم آية التطهير في قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2».

وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «3»

، والآية باتّفاق جمهور المفسّرين ونصوص الفريقين «4» نزلت في عليّ عليه السلام، وهي نصّ في حصر الولاية المطلقة في اللَّه تعالي، ثمّ الرسول صلي

الله عليه و آله، ثمّ عليّ عليه السلام.

وهذا ينافي أو يتنافي مع نظرية الصوفية من دعوي الولاية والإمامة النوعية، فإنّه علي وفق تلك النظرية لا وجه للحصر في أيّ زمن من الأزمان، حتّي زمن النبيّ صلي الله عليه و آله والزمن الذي يليه. وبعبارة أُخري: إنّه علي نظرية الإمامة النوعية لا حصر لها علي صعيد النظرية والتنظير، وإن كان القطب أو قطب الأقطاب ذو الولاية العامّة يتعاقب علي هذا المقام واحد تلو آخر، وأمّا علي صعيد الإمكان والتنظير أو التعاقب الزمني فلا حصر بل هو شرعة لكلّ وارد، واحد بعد آخر.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 194

وكذلك قوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَي عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

وكذا قوله تعالي: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» «2».

فإنّ تخصيص الفي ء وضريبة الخمس بذوي القربي أي ملكية التدبير والتصرّف لهم؛ لموضع اللام في الآية، حيث أُضيفت إلي اللَّه ورسوله وذوي القربي دون الموارد الثلاثة الأُخري؛ لبيان أنّ ملكية ولاية التدبير لهم عليهم السلام خاصّة إلي يوم الإشهاد، وأنّ الموارد الثلاثة الأخيرية موارد للصرف، وهذا الحكم ثابت إلي يوم القيامة. ولا يخفي أنّ ذلك يعني أنّ القدرة المالية المطلقة في دين الإسلام وأُمّة المسلمين إلي يوم القيامة هي لذوي القربي؛ لأنّ الفي ء كما مرّ هو مطلق المنابع المالية والخمس الذي يعني 20% من مجموع أموال المسلمين، كلّ ذلك يشكّل سلطة وأُسطول مالي لا نظير له، وقد علّل هذه الصلاحية

لهم عليهم السلام؛ لأجل إرساء العدالة في الأُمّة الإسلامية «كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»؛ لأنّ سلطة المال يتمكّن بها من إرساء العدالة، ليس فقط في المجال المالي، بل كذلك في المجال السياسي والقضائي والحقوقي والأمني، وغيرها من الحقول.

الوجه النقلي في الأحاديث النبويّة: … ص: 194

هم الذين قال فيهم النبيّ صلي الله عليه و آله في الحديث المتواتر: «إنّي تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ فإنّهما لن يفترقا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 195

حتّي يردا عليّ الحوض» «1»

، فبيّن صلي الله عليه و آله بهذا الحديث أنّ وراثة حقيقة القرآن إلي يوم القيامة والإمامة هي في العترة دون غيرها.

ومثله حديث السفينة: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجي، ومن تخلّف عنها هلك» «2»

، ومفاده حصر النجاة بولايتهم، كما كان حصر طريق النجاة من الطوفان منحصراً بركوب سفينة نوح.

وكذلك قول النبيّ صلي الله عليه و آله في الحديث المتواتر: «لن يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ظاهراً علي من ناواه حتّي يملك اثني عشر كلّهم من قريش» «3»

، وكذا قوله صلي الله عليه و آله:

«النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان للأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» «4».

وهذا الحديث مفاده انحصار النجاة والولاية العامّة بأهل البيت عليهم السلام، كما أنّ الحديث يشير إلي تأبيد حصر الأمان بهم إلي يوم القيامة؛ لمكان تشبيههم بالنجوم لأهل السماء، فإنّ أمان أهل السماء دوامه بدوام النجوم، وهذا موضع آخر لوجه التشبيه.

وكذا قوله صلي الله عليه و آله في حديث النور الذي تقدّم: «كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه تعالي من قبل أن يُخلق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللَّه تعالي

آدم سلك ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 196

النور في صلبه، فلم يزل اللَّه تعالي ينقله من صلب إلي صلب حتّي أقرّه في صلب عبد المطّلب، ثمّ أخرجه من صلب عبد المطّلب فقسّمه قسمين، فجعل نوري في صلب عبد اللَّه، ونور عليّ في صلب أبي طالب، فعليّ منّي وأنا منه، لحمه لحمي ودمه دمي، فمن أحبّه فيحبّني أحبّه فمن أبغضه فيبغضني أبغضه» «1»

والحديث الشريف يدلّ علي تخصيص الولاية العامّة والإمامة بالذوات النورية المخلوقة بخلق النبيّ صلي الله عليه و آله، وهم أهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله، وأنّ هذا المقام لابدّ أن يسبقه اصطفاء في العوالم السابقة من عالم النور والميثاق والذرّ والأصلاب والأرحام، فليس يُنال بالكسب الدنيوي المجرّد.

وكذا قوله صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليقصد الباب» «2».

الحديث السابع في قوله صلي الله عليه و آله ضمن حديث تبليغ سورة البراءة: «لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ» «3»

، وتقريب الدلالة في مفاد هذا الحديث والحديث الذي سبقه هو ما تقدّم في آية حصر الولاية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 197

الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «1»

من حصر هذه المقامات بعليّ والعترة، ولا ينسجم مع الولاية والإمامة النوعية في جميع الأزمان.

أمّا الدليل العقلي والكشفي:

فنقول:

إنّ مسألة كون العصمة وهبية إلهية أو كسبية اختيارية أو جبرية هي من المسائل والقواعد المعرفية الحسّاسة الهامّة، إلّاأنّه بعد إلقاء الضوء علي هذه المسألة يتّضح عدم كون العصمة المعهودة للمقامات المتقدّمة ممّا يمكن أن تُكتسب في دار الدنيا، فلا تكون كسبية دنيوية.

وتوضيح ذلك: إنّ العصمة لها جهات اختيارية وإن كان لها أيضاً جهات غير اختيارية. فمن تلك الجهات

الاختيارية الأفعال الصادرة عن العصمة، فإنّها اختيارية؛ حيث إنّها تصدر عن علم وقدرة؛ إذ العلم اللدني الخاصّ الاصطفائي والقدرة المتولّدة منه تستتبع صدور الأفعال عنها، وكلّ فعل يصدر عن علم وقدرة فهو اختياري.

ومن الجهات الاختيارية في العصمة هي أصل العصمة كملكة أو جوهر نوراني من سنخ العلم في الذوات المطهّرة، ومعني الاختيارية في أصل العصمة ليس بمعني إمكان اكتسابها في دار الدنيا بعد أن لم تكن، بل بمعانٍ أُخري:

منها: ما أُشير إليه في صدر دعاء الندبة الشريف، عند قوله عليه السلام: «اللّهمّ لك الحمد علي ما جري به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوالَ له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 198

الوفاء فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ، وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلي رضوانك» «1».

فبيّن عليه السلام أنّ العصمة المعطاة لهم والتي عبّر عنها عليه السلام بقوله: «فقبلتهم..

وجعلتهم»، أي إهباط الوحي والملائكة عليهم، والإرفاد بالوحي اللدني وتقديم الذكر العلي، وغيرها من شؤون العصمة الوهبية، إنّما أعطاها الباري لهم منذ بدو نشأتهم؛ لعلمه تعالي بخصوصية في ذواتهم، وهي اشتراطهم وتعهّدهم بطاعة اللَّه من بدو تولّدهم إلي منتهي عمرهم في دار الدنيا، وزهدهم في كلّ درجات الدنيا وزخرفها وزبرجها.

وهذا نظير المعلّم الذي يتفرّس في بعض تلاميذه النبوغ والأهلية والقابلية والجدّ والاجتهاد منذ أوائل حقبة التعليم، فيولّيه عناية خاصّة تزيد علي بقية الطلاب؛ لاستحقاق ذلك التلميذ وتأهّله بقابلية تفوق البقية، فيكون من الحكمة والجود أن يولّي المعلّم مزيد اهتمام ورعاية

وتفقّد وتعليم لذلك التلميذ دون الآخرين، وذلك مثل الزارع إذا كانت له أنواع من قطع الأرضين، فواحدة خصبة حيّة منتعشة طيبة، وأُخري متوسّطة معتادة الأوصاف، وثالثة سبخة أقرب إلي الميتة، فإنّه والحال هذه يخصّ الأرض الخصبة بالبذر الثمين المنتج والمثمر ويولّيها مزيد من الخصائص، كالماء العذب وتقليب التربة ونحو ذلك، دون القطعتين الأُخرتين، بل الثالثة لا يُزرع فيها إلّاالعشب وما تقتاده الحيوانات.

ومنها: من الجهات الاختيارية في أصل وجود صفة العصمة ما أُشير إليه في خطبة الصدّيقة وزيارتها عليها السلام:

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 199

«… وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن يجتبله، واصطفاه قبل أن يبتعثه، وسمّاه قبل أن ينتجبه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة وبنهاية العدم مقرونة، علماً منه بمآل الأُمور وإحاطة بحوادث الدهور ومعرفة منه بمواقع المقدور، وابتعثه إتماماً لعلمه وعزيمة علي إمضاء حكمه وإنفاذاً لمقادير حقّه» «1».

وكذلك ما ورد في زيارتها: «يا ممتحنة امتحنك اللَّه الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ، فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة» «2»

، فإنّ الامتحان في رتبة العلم الربوبي والاصطفاء والاختيار والانتجاب في أُفق العلم الإلهي قبل خلق النبيّ صلي الله عليه و آله وقبل خلق الزهراء عليها السلام، يدلّ علي وقوع العلم الإلهي علي خصوصية في تلك الذوات المطهّرة التي حباها اللَّه بختم النبوّة والحجّية علي الخلق.

ونظير ذلك ما يصنعه الزارع، فإنّه يرجع في انتخاب البذر والزرع إلي علمه بخصائص البذور وأنواع ثمارها وصالحها من طالحها، ثمّ يختار أَنفَسها جودةً وطيبة، ويُسمّي هذا بالامتحان في مقام العلم قبل الإيجاد والوجود الخارجي.

ومنها: ما وقع من امتحانات في العوالم السابقة، كعالم الذرّ المشار إليه بقوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَي أَنْفُسِهِمْ

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَي شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» «3»

، ومثله: عالم الميثاق، وخلق الطينة، وعالم الأصلاب والأرحام والنطفة، وغيرها من العوالم السابقة علي نشأة الإنسان في دار الدنيا، فإن في تلك العوالم سنخ امتحان واختبار يختلف عن سنخ الامتحان والاختبار في دار الدنيا، ولا يُؤهّل للمقام الخاصّ من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 200

النبوّة والإمامة والحجّية علي الخلق إلّامن قد فاز في تلك الامتحانات وانتُجب واصطُفي هاهناك. فمن ثمّ لا تكون كسبية في دار الدنيا.

ومنها: لا يمكن أن تتحقّق فيمن يفترض فيه إمكان الزلل، أي فيمن يفترض فيه عدم الأمان من الوقوع في المعصية، ولأجل خفاء تلك الامتحانات في تلك العوالم عن الخلق وخفاء قابليات البشر وخفاء معادنهم وطينتهم، كان من الضروري في البديهة التكوينية والعقلية أن يكون تعين صاحب مقام النبوّة أو الرسالة أوالإمامة والولاية المطلقة والحجّية علي الخلق هو باطّلاع اللَّه تعالي معرفة ذلك بالنصّ الإلهي الوحياني والمعجزة، وإلي ذلك يشير تعالي: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ* وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» «1».

ولأجل ذلك، أطبقت الإمامية علي ضرورة المعجزة والنصّ الإلهي علي صاحب الإمامة والولاية المطلقة والحجّية علي الخلق، وأنّها تستحيل أن تكون كسبية في دار الدنيا. وهذا بخلاف نظرية الصوفية وبعض العرفاء؛ حيث زعموا أنّ مقام الولاية المطلقة مفتوح بابه لكلّ وارد وسالك للطريقة، ويتحقّق بالحقيقة.

وقد عرفت أنّ الوجوه التي تشبثّوا بها من الآيات والأحاديث غاية مفادها هو إمكان الوصول إلي المقامات المعنوية العامّة، كمقام استجابة الدعوة بنحوٍ محدود، أو نيل شي ء من الحكمة وبعض درجات التقي والصدق والإحسان والعبودية وغيرها، لا بنحو الاستيفاء التامّ بكلّ درجاتها

لتبلغ المقامات الخاصّة كالولاية المطلقة والإمامة والحجّية علي الخلق.

ومن ثمّ لم يتجرّوا علي دعوي بلوغ النبوّة التشريعية أو مقام إبلاغ الرسالة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 201

الإلهية، مع أنّ التفرقة لا وجه لها، إلّاقاعدة الاصطفاء والاختيار الإلهي التي هي مفاد نظرية النصّ الإلهي علي أصحاب هذه المقامات الخاصّة، من دون فارق بين النبوّة والرسالة والإمامة والولاية المطلقة والحجّية علي الخلق والخلافة الإلهية الكبري.

وخير شاهد علي بطلان زعمهم: ما يلاحظه المتتبّع المدقّق المحقّق في كتبهم وكلمات روادهم في تفسير الآيات والمعارف، وباب التأويل للآيات التنزيلية والتكوينية، وباب الآداب والسنن، وغيرها من أبواب المعارف … فيلاحظ كم لهم من رأي ونظر قد تبيّن- في التحقيقات العلمية والحكمية والمشاهدات- بطلانها وقصورها عن الإحاطة بتمام الواقع، وضحالة نابعة من البيئة العلمية والمذهبية التي ترعرع ونشأ فيها ذلك الصوفي والعارف.

فبون بين ما يفسّرونه من معارف وتأويلات، وبين ما يشاهده المحقّق الحكيم السالك في المعارف المأثورة عن بيت النبوّة، وأين الثري من الثريا؟

حتّي أنّ بعض الأكابر من الصوفية يعتقد بالهيئة البطليميوسية ويرتّب عليها مزاعم من المكاشفات، أو تراه يبني علي الجبر الأشعري والمسلك الأشعري في الحسن والقبح، أو يقول أنّ الولي وإن كان تابعاً في علم التشريع والأحكام للنبيّ، إلّا أنّ النبيّ قد يكون تابعاً له في المعارف والعلوم الحقيقية، ثمّ اعتمد في ذلك علي قصّة أُساري بدر المُختلَقة، وحديث تأبيرالنخيل الموضوع.

وقد ردّ عليه السيد حيدر الآملي بقوله: فكيف يخطئ فيها من هو موصوف بأنّه «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» «1»

، وكذلك من هو موصف ب:

«مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» «2»

. فالشيخ ابن عربي والشارح

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 202

الكاشاني لو كانا عالمين بأُصول أهل البيت عليهم السلام

لما قالا هذا، ولما نسبا الرسول المعصوم من الخطأ إلي الخطأ، ولما نسبا غيره إلي الصواب «1».

ثمّ قال: فنسبة مثل هذا من الشيخ الحاتمي إلي النبيّ والشراح- سوء أدب وإهمال من جانبه صلي الله عليه و آله.

وأما الشارح الثالث، وهو داود القيصري وكان تلميذ لعبد الرزّاق الكاشاني المذكور فهو قد أخذ بطرف النقيض والتعصّب وقال:.. وأمثال هذه المهملات من غير تمسّك إلّابقول الشيخ- لا يُعتد بها. ثمّ نقل قول ابن عربي في كون علماء الظاهر من الأئمّة الأربعة لهم الوراثة في التشريع، وأنّ الوراثة لباطن الشرع مخصوصة لعلماء الباطن العالمين بأسرار الحقيقة.

فردّ عليه السيد حيدر بقوله: وقط ما التفت في ذلك إلي ذكر أهل البيت عليهم السلام وعترة النبيّ صلي الله عليه و آله وأمير المؤمنين والمهدي عليهم السلام، الذين هم ورثته حقيقةً من غير خلاف كما سبق ذكره من قول اللَّه وقول النبيّ، والحال أنّ الأئمّة الأربعة ليسوا بقائلين لأنفسهم العلوم الإرثية بل الاجتهادية الكسبية، كما أشار إليه الشيخ (الحاتمي) أيضاً. وبناءً علي هذا كيف يصدق اسم الإرث علي الكسب، وبالعكس؟

هذا بحسب العلوم الظاهرة ونسبتها إلي الأئمّة الأربعة. وأمّا بحسب العلوم الباطنة ونسبتها إلي العارفين، فهم أهل البيت عليهم السلام أولي وأقدم وأليق وأنسب كما بيّنا انتساب جميع العلوم إليهم قبل هذا، وكذلك المشايخ والعارفون فإنّهم بأسرهم- منسوبون إليهم صورةً ومعني. وبالجملة، فكل من يكون علمه حاصلًا بالكسب من الأُستاذ والشيخ بطريق التعليم والتعلّم فليس بإرثٍ أصلًا، وكلّ من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 203

يكون علمه حاصلًا بالكشف والشهود.

والعجب كلّ العجب أنّ أمثال هؤلاء يدّعون الكشف والعرفان ويحصل منهم مثل هذا الكلام. أمّا القيصري فقد عرفت خبطه ومهملاته، وأمّا الشيخ (الحاتمي) فإنّه حيث كان يعرف أنّ

عيسي عليه السلام ينزل في آخر الزمان ويحضر عند المهدي، ويكون تابعاً له ولجدّه في النبوّة والولاية، فنقول: كيف حكم أنّه خاتم الولاية المطلقة مع وجود عليّ عليه السلام بما ثبت (أي الذي ثبت) له استحقاق هذه الصورة نقلًا وعقلًا وكشفاً وبقوله أيضاً؟ وحيث كان عارفاً بحال المهدي عليه السلام إلي هذه الغاية التي ذكرها وخصّ به الختمية للولاية المقيّدة المحمّدية، كيف كان ينسبها إلي نفسه ويجزم بذلك بعقله. والعجب أنّه يثبت هذا المقام لنفسه بحكم النوم، وقد ثبت هذا لغيره بحكم اليقظة بمساعدة النقل والعقل والكشف، وأين النوم من اليقظة، و (أين) القياس من الدلائل العقلية والشواهد النقلية التي تطابق الكشف الصحيح «1»؟!

وقال السيد حيدر في الكتاب المتقدّم في معرض الردّ علي دعوي بعض العُرفاء بأنّه خاتم الولاية المطلقة-: وهذا أمر جليل وشأن عظيم لا يستحقّه إلّا الخاتم للولاية المطلقة الذي هو عليّ بن أبي طالب صلوات اللَّه عليه فلينظر العاقل إلي هذا المنصب الرفيع ويحكم بما يري فيه، والحقّ جلّ ذكره ما اكتفي بهذا حتّي قال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «2»

؛ لأنّ «أُولِي الْأَمْرِ» في الدين لا يجوز (إلّا) أن يكون (من) الأولياء قائماً بأوامر دين اللَّه وإجراء أحكام نبيّه شريعةً وطريقةً وحقيقةً، ولا يجوز أن يكون (مثل هذا الولي) إلّا معصوماً في نفسه منصوصاً (عليه) من عند اللَّه؛ لأنّ متابعته ومطاوعته كمطاوعة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 204

اللَّه تعالي ومطاوعة رسوله، ومطاوعتهما واجبة شرعاً وعقلًا، فتكون مطاوعة أولي الأمر كذلك، وكلّ من يأمر الحقّ بمطاوعته علي سبيل الوجوب لو لم يكن في نفسه معصوماً ومنصوصاً (عليه) من عند اللَّه سبحانه يلزم أن يكون هو سبحانه آمراً بمطاوعة من يكون جائز الخطأ،

وهذا غير جائز عقلًا؛ لأنّ الأمر بالقبيح قبيح «1».

وقال: فلم يبق إلّاأن يكون المراد (بأولي الأمر) الإمام المعصوم الذي لا تصدر عنه صغيرة ولا كبيرة من الصغر إلي الكبر؛ لئلّا يلزم الإخلال منه تعالي بالواجب ومن نبيّه صلي الله عليه و آله. ومع ذلك، فمعنا تقسيم عقلي وقانون كليّ نرجع إليهما.

ثمّ استدلّ علي لزوم كونه معصوماً معلوماً معيناً أي منصوصاً عليه. «2» وقال:

وأعظم الدليل علي ذلك علمه (أي المهدي) بالقرآن علي ما هو عليه، وليس للشيخ (ابن عربي) ولا لغيره هذا، حتّي قالوا (إنّه) لا يقرأ القرآن علي ما هو عليه إلّا المهدي إذا ظهر، وقوله صلي الله عليه و آله: «كتاب اللَّه وعترتي» يشهد بذلك، لأنّه جعلهما توأمين، وقال: «لا يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض»، وقال بعبارة أُخري: «إنّ أولي الناس بكتاب اللَّه: أنا وأهل بيتي من عترتي»، وعند التحقيق: «وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «3»

إشارة إليه (أي إلي المهدي عليه السلام) وإلي أجداده المعصومين عليهم السلام.

وقول النبيّ صلي الله عليه و آله: «من أراد علوم الأوّلين والآخرين فعليه بالقرآن» يشهد بصدق هذا كلّه، وليس الشيخ (ابن العربي) وإن كان عالماً عارفاً في هذا المقام، أعني بأن يكون له الاطّلاع علي أسرار القرآن علي ما هو عليه في نفس الأمر، وإن قال أنا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 205

القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني «1».

وقال بعض العلماء في قوله تعالي: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» «2»

الآية، فالظالم هاهنا من العباد هو الذي ما أعطي حقّ كتاب اللَّه تعالي وما حكم به، والمقتصد هو الذي أعطي حقّه وأقرّ به وقام

بما فيه بقدر وسعه، والسابق بالخيرات هو الإمام المعصوم المنصوص (عليه) المخصوص بهذا المقام، فافهم جيداً واسمع قوله جلّ ذكره: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» «3»

، ومن جملة ما أنزل اللَّه قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «4»

، وأنت لا تعطي عوض المودّة إلّاالمبَغَضَة، فكيف حكمت بالقرآن؟ وأقلّ المبغضة أنّك تنسب مرتبتهم وإمامتهم إلي الغير بغير حقّ، لا جرم صرت مستحقّ أن يُقال فيك:

«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «5»

، وأن يقال: «أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الظَّالِمِينَ» «6»

، ويقال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ» «7»

، هذا مضي وتلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت «8» أمراً.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 207

القراءة الجديدة الثالثة في حديث الغدير ولايتهم السياسية المدنية … ص: 207

قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا* أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا» «1».

فبيّن تعالي أن الانقياد والطاعة والتبعية السياسية في النظام الاجتماعي السياسي لا تجوز ولا تحلّ لغير الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر المعصومين عليهم السلام، وكلّ مُطاع ومُنقاد له في النظام السياسي دونهم- بحيث لا يؤول إليهم- فهو طاغوت أُمر بالكفر به، وإن كانت الآية غير خاصّة بالنظام السياسي، بل تعمّه وغيره كما مرّ أنّه الصحيح من عموم مفاد الآية.

فالانتماء السياسي إلي أيّ جهة لا تنتسب إليهم

عليهم السلام، يُعد ذلك انتماءً إلي الطاغوت، فعلي صعيد الولاء السياسي واتّخاذ الهوية في الانتساب إلي أي نظام سياسي دونهم عليهم السلام غير منتسب إليهم، يُعدّ ذلك الانتماء ركون إلي حاكم الجور وتحاكم إلي الطاغوت، وقد قال تعالي: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 208

اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي» «1».

وإلي ذلك يشير قوله تعالي: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» «2»

، فإنّ الولوج في الانتماء السياسي إلي غير جماعة الحقّ التابعين لولاء اللَّه تعالي وولاء رسوله وولاء المؤمنين وهم أولي الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم أصحاب الأمر المتنزّل ليلة القدر، وهم الذي يرون أعمال العباد ويشهدونها كما في قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «3»

، وهذه الآية قد ذُكرت في سياق نفس الآية في سورة البراءة. ومن الظاهر أنّهم ليسوا عموم المؤمنين، بل خصوص أئمّة المؤمنين.

ومن ثمّ قُرّر في النصوص المستفيضة والمتواترة الواردة في الفقه وكذا في الفتوي باباً بعنوان البغي والبغاة، المستمد من التشريع القرآني والسنّة القطعية، وعُنون في الفقه لدي كافّة المذاهب، فهو من الأبواب المتأصّلة في الفروع، وقد اتّفقوا علي تعريفه بأنّه: الخروج عن طاعة الإمام العادل وهذه مرتبة من مراتب ولاية إمام الحقّ.

وقد روي الفريقان بطرق عديدة: «إن من مات ولم يبايع إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»، وفي بعض الروايات «من مات وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتةً جاهلية»، وقد روي بألفاظ أُخري أيضاً.

ولا ريب أنّ مفاده لا ينطبق إلّاعلي إمام الأصل وهو المعصوم علماً وعملًا؛ لأنّه لا يُتصوّر أن يكون شخصاً غير المعصوم له من الطاعة السياسية وغيرها

ذات هذا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 209

الشأن بحيث لا يموت المسلم والمؤمن علي صفة الإسلام ويكون موته ميتةً جاهلية، فطاعته هي الحدّ الفاصل بين الإسلام والكفر بلحاظ الأثر الأخروي، فهذا الشأن لا يكون إلّالمن اصطفاه اللَّه وطهّره من الأرجاس والذنوب، لا من يكون في معرض اقتراف المعاصي والكبائر ولا يؤمن من الوقوع في سخط اللَّه وغضبه.

فمفاد الحديث النبويّ يقرّر أنّ تولّي الإمام سياسياً وطاعته في الحكم والانتماء إليه في الهوية السياسية دخيل في الإيمان وصحّته والخروج عن حدّ الكفر القلبي الأُخروي، هذا فضلًا عن معرفة ذلك الإمام والاعتقاد والإيمان بإمامته فالطاعة والولاء لحاكميته هي بهذا الشأن، فأيّ انتماء وتحرّك وحركة وهوية سياسية لا تستند إلي إذن الإمام وأمره يكون خروج عن طاعته وتدبيره وبغياً علي ولايته السياسية. وهذا المفاد للحديث النبويّ يطابق مفاد الآية السابقة من لزوم إطاعة أُولي الأمر وحرمة التحاكم إلي غيرهم من الطواغيت.

وقد وردت الروايات المستفيضة بهذا المضمون، الدالّة علي أنّ المسلم والمؤمن يجب عليه أن ينتمي ويعيش في ظلّ النظام السياسي المدبَّر من قبل المعصوم، سواء كان ذلك النظام السياسي بصورة الحكومة المعلنة رسمياً، كما في عهده صلي الله عليه و آله وعهد وصيّه عليه السلام وسبطه المجتبي عليه السلام، أو بصورة الحكومة غير الرسمية في ظل النظام الإيماني، وهو نظام الطائفة الإمامية الاثني عشرية الاجتماعي الذي بُني بيدهم عليه السلام.

ويندرج في هذا المقام عدّة أبواب في النظام السياسي، كباب الجهاد من:

حرمة الجهاد مع إمام لا يُؤمّن علي الحكم ولا ينفذ في الفي ء أمر اللَّه عزّوجلّ، وكباب القضاء من: حرمة التحاكم إلي حكام الجور، وهو كلّ حاكم لم يستمد صلاحية قضائه من المعصوم، وكباب الفتوي أيضاً؛ وذلك لأنّ التقاضي والقضاء وصلاحية بيان

القوانين الشرعية هما من شُعب سلطات النظام السياسي، واللازم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 210

فيه هو الانتظام في المنظومة التابعة والمنقادة للمعصوم وتدبيره، وبالتالي يتحقّق العيش في ظلّ حكومته وحاكميته ولو بصورة نظام اجتماعي للطائفة والمذهب، وإن لم يكن بصورة نظام الدولة الرسمية.

وحينئذٍ يكون ذلك تمسّكاً وأخذاً بحجزتهم وعيشاً في كنفهم ومكثاً في ظلّهم السياسي وتأديةً لحقوقهم، ومن ثمّ أشارت الآية السابقة إلي التناقض والتهافت بين دعوي الإيمان بما أنزل اللَّه، وبين العيش والانتماء السياسي في ظلّ الكيانات الجائرة التي لا تستمدّ مشروعيتها من اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله.

وكذلك قوله تعالي: «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» «1»

، وقوله تعالي: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «2»

، وقوله تعالي: «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» «3»

، وهذه الآية في ذيل الآية الأُولي.

فتبين الآيات الكريمة أنّ الإيمان لا يتمّ إلّابالولاء السياسي في كلّ شعبه، من القضاء والتشريع والتدبير إلي من أعطت السماء له الصلاحية، ولا يكفي مجرّد المعرفة والإقرار بالقلب.

وهذا مقامٌ خطير من مقامات ولاية اللَّه وولاية رسوله وأُولي الأمر المطهّرين الذين أُمرنا بطاعتهم. ويتّضح بذلك أنّه يحتمل في قوله تعالي في آية الغدير:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «4»

أنّ إكمال الدين حصل بالبيعة السياسية لأمير المؤمنين عليه السلام في غدير خمّ؛ وإلّا ففرض

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 211

الإقرار بإمامته ومعرفته بالإمامة وأخذ ذلك في حصول الإيمان القلبي قد حصل في يوم الدار عند نزول هذه الآية: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ

أَلْأَقْرَبِينَ» «1»

المعروف بحديث الدار في الآيات والسور المكّية «2» فضلًا عن المدنية. فالتدرّج هو في بيان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لشعب الولاية ومراتبها؛ وإلّا فأصل الولاية قد أُخذ ركناً في الإيمان والدين منذ أوائل البعثة، كما في سورة الشعراء، وجعل آدم خليفة أي إماماً، ومقام الإمامة في السور المكّية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 213

تلوّن الفقه بولايتهم عليهم السلام موقعية الإمامة في بقية أركان الدين … ص: 213

اشارة

قراءة جديدة في حديث:

«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»

قد روي الفريقان بنحوٍ مستفيض أو متواتر حديث النبي صلي الله عليه و آله: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» «1»

. وألفاظ الحديث في بعض الطرق:

«من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية» «2».

والمتبادر من فقه هذا الحديث وجود أئمّة في هذه الأُمّة ولهذا الدين، بهم يتقوّم الإيمان، وبمعرفتهم النجاة، وأنّ معرفتهم علي حدّ معرفة بقية أُصول الدين في كونها موجبة لحصول حقيقة الدين والديانة، وعدم تلك المعرفة موجب الخروج من حدّ الإيمان وحقيقة الإسلام إلي حدّ الكفر الأُخروي.

وأمّا مفاد الحديث علي اللفظ الآخر وهو البيعة والتي بمعني الطاعة السياسية، فله معني يتناول المعني السابق وزيادة، حيث يبيّن الحديث علي اللفظ الثاني (البيعة): أنّ الطاعة السياسية والقانونية للإمام دخيلة في تحقّق الإيمان، ومن ثمّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 214

ينفتح مسار آخر لقراءة الحديث بنحو أعمق، ألا وهو البحث في العلاقة بين الإمامة وبقية أركان الدين، ولك أن تعبّر موقعية الإمامة في الأبواب الفقهية وفصول التشريع، كي نلاحظ ونتتبّع لون الولاء السياسي والقانوني للمعصوم عليه السلام.

فلو أراد الباحث تصفّح التشريع في الأبواب:

فأوّلًا: في باب الاجتهاد والتقليد، فإنّ منصب الإفتاء والفُتيا للمجتهد والفقيه منشعبة صلاحيته من إذن وتخويل الإمام المعصوم، ويرشد إلي هذه الحقيقة أنّ الفُتيا

ليست مجرّد إخبار محض كما هو الحال في نقل الراوي للرواية، بل هي سلطة تشريعية لا بمعني الصلاحية في تشريع الأحكام، بل بمعني أنّ الفهم التخصّصي لاستنباط واستنتاج الأحكام هو قدرة في معرفة الأحكام وبيانها، وبالتالي فهي قدرة في الخطاب القانوني المؤثّر في المجتمع.

ومن ثمّ اعتُبرت السلطة القانونية إحدي سلطات الحكم السياسي الاجتماعي، ذات نفوذ وامتداد في المجتمع. ومن ثمّ كان منصب الفتوي والذي هو أحد المناصب المرجعية الدينية- هو مسند ولاية نيابية ينوب فيها الفقيه والمجتهد عن المعصوم، ضمن مجال محدود بالقياس إلي علم المعصوم اللدني، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «1»

، حيث جعلت الآية موقعية الفقيه في طول بنيابته عن المعصوم في حدود ما يتلقّاه عنه، فلا يُعقل إسناد هذا المنصب لغير المؤمن وغير العادل، وليس هو وزان الرواية حيث يُقبل فيها خبر الموثّق وإن لم يكن عادلًا، وبعبارة أُخري لا يستنيب الإمام المعصوم من لا يأتمّ به ولا يعتمد إمامته في هذا الدور من المنصب الخطير

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 215

في الدين.

وكذلك الحال في منصب القضاء والمناصب الأُخري التي يقوم بها نيابة عن المعصوم في ضمن مجال محدود، بالقياس إلي صلاحيات المعصوم بسبب العصمة العلمية والعملية، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» «1»

، حيث جعل الأحبار وهم العلماء، في طول الربانيين وهم

الأوصياء المستحفظون ينوبون عنهم في بعض حدود الصلاحيات.

فيُعلم من ذلك أنّ صلاحيات نيابة الفقيه أو المجتهد كلّها منشعبة ومتعلّقة بالمعصوم وإمامته، فهذا الباب مرتبط عضوياً بشؤون الإمام المعصوم، فمن الغفلة بمكان بتر صلة هذا الباب الذي هو باب الفتوي والقضاء وباب الحكم وباب الحدود ونحوها، عن الصلة بشؤون المعصوم، بدعوي أنّ الفتوي إخبار محض.

أو أنّ القضاء ليس بتنصيب نيابي بل هو عبارة عن قاضي التحكيم، أي بتراضٍ من الخصمين، وأنّ صلاحية نفوذ القضاء ناشئة من التزام وتوافق طرفي النزاع في الخصومة، أو أنّه ناشٍ من قاعدة الحسبة التي مؤدّاها استكشاف الجواز وإن لم يكن إذناً ولائياً ونيابة، بل هو جواز تكليفي محض وليس مؤدّيً حقوقياً، وبالتالي يكون التمسّك بقاعدة الحسبة تجاوز علي ضرورة امتداد ولاية المعصوم إلي هذه المواقع، والحدّ من أياديه وشؤون تصرّفه وصلاحيات تصرّفه.

وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الحكم للفقيه والمجتهد الناشئة من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 216

انتخاب الأُمّة بمقتضي قاعدة الشوري بالمعني المقلوب لها، بمعني سلطة الأكثرية؛ لأنّ المعني الأوّل الصحيح لها هو بمعني المداولة الفكرية والاطّلاع والفحص المعلوماتي، واتّباع منهج الفحص العلمي الخبروي والفرق الاستشارية التخصّصية في كلّ مجال، وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الفقيه والحاكم من أنّها ناشئة من العقد والتعاقد بين الأُمّة والحاكم المسمّي بالبيعة. وكلّ هذه المباني تصبّ في بتر الصلة مع المعصوم، وتحديد صلاحياته وولايته أو تجميدها، وبالتالي هذه التنظيرات الفقهية تؤول إلي حسر المعصوم عن ولايته الفعلية وتجميدها، وتصوير المبني علي تصوّر خاطئ، وهو عدم التصدّي الفعلي من قبل المعصوم للأمور، وبالتالي يؤول الأمر إلي تصوّرات اعتقادية خاطئة خطيرة في معرفة الإمام والإمامة، وإن كان هذا التلازم بين هذا التنظير الفقهي وهذه اللوازم الأُخري هو

تلازم نظري خفي مغفول عنه.

وقال الشيخ المفيد في المقنعة «1» في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(فأمّا إقامة الحدود: فهو إلي سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللَّه تعالي، وهم أئمّة الهدي من آل محمّد عليهم السلام، ومن نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلي فقهاء شيعتهم مع الإمكان، فمن تمكّن من إقامتها … ويجب علي إخوانه من المؤمنين معونته علي ذلك إذا استعان بهم، ما لم يتجاوز حدّاً من حدود الإيمان، أو يكون مطيعاً في معصية اللَّه تعالي به، لم يجز لأحد من المؤمنين معونته فيه، وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعاً للَّه تعالي من إقامة حدّ وإنفاذ حكم علي حسب ما تقتضيه الشريعة، دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال … وليس لأحد من فقهاء الحقّ ولا من نصّبه سلطان الجور منهم للحكم أن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 217

يقضي في الناس، بخلاف الحكم الثابت من آل محمّد عليهم السلام، إلّاأن يضطرّ لذلك للتقية والخوف علي الدين والنفس … ومن لم يصلح للولاية علي الناس لجهلٍ بالأحكام أو عجز عن القيام بما يُسند إليه من أُمور الناس، فلا يحلّ له التعرّض لذلك والتكلّف، فإن تكلّفه فهو عاصٍ غير مأذون له من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات، ومهما فعله في تلك الولاية فإنّه مأخوذ به محاسب عليه ومطالب فيه بما جناه، إلّاأن يتّفق له عفو من اللَّه تعالي، وصفح عمّا ارتكبه من الخلاف له، وغفران لما أتاه). انتهي.

ثانياً: في باب العبادات، فإنّ مشهور علماء الإمامية بنوا علي شرطية الإيمان والمعرفة بالأئمّة في صحّة العبادات، وقد ساقوا في ذلك أدلّة قرآنية وروائية «1»، وهي الآيات التي تدلّ علي حبط العمل من دون الإيمان، نظير

ما وقع في قصّة إبليس اللعين، حيث حبطت عبادته الطويلة الأمد بتركه ولاية وليّ اللَّه وخليفته.

وكذا قوله تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» «3»

، وقوله تعالي: «وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «4»

، وقوله تعالي في وصف حال الذين في قلوبهم مرض: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ» «5»

، وقد فسّر الباري المرض في القلوب بالضغينة حينما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ» «6»

، وهي في قبال مودّة القربي المفترضة، إلّاأنّ بعض متأخّري هذا العصر احتملوا أنّ غاية مفاد تلك الأدلّة هي نفي القبول والثواب

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 218

الأُخروي، لا صحّة العمل بلحاظ سقوط العقوبة، وإن لم يعتمدوا علي مجرّد هذا الاحتمال في صحّة نيابة غير المؤمن في العبادة

ولا يخفي أنّ هذا البحث شامل للاعتقاديات أيضاً، من الأيمان بالتوحيد والنبوّة والمعاد، كما أشرنا إليه في مقالة سابقة.

فيتأتّي القولان في ذلك أيضاً، وإن كان في تسمية الاحتمال الثاني قولًا مسامحةً، فعلي قول المشهور لا يكون ذلك الاعتقاد بأُصول الدين من دون الولاية لخليفة اللَّه سالماً صحيحاً، بل منطوياً علي نمط من الشرك والكفر، كالذي حصل لإبليس مع إقراره بالربوبية والمعاد، حيث طلب الإنظار إلي يوم البعث، وكذلك كان مقرّاً بنبوّة آدم وتفضيله عليه إلّاأنّه حيث كان غير منقاد لولاية خليفة اللَّه، لم يكن إيمانه صحيحاً، ولم ينجه من مصير الخلود في النار.

وأمّا علي القول الآخر، فيكون الإقرار متحقّقاً، ولا يُعاقب علي التوحيد والنبوّة والمعاد، وإن عوقب علي ترك الإقرار والإيمان بالولاية، لكنّه لا يُثاب علي ما قد أقرّ به من التوحيد والنبوّة والمعاد من

أُصول الدين.

ومحصّل الفرق بين القولين: إنّه علي قول المشهور يبطل جميع أعمال التارك للولاية والإيمان، سواء البدنية أو القلبية الاعتقادية، فيعاقب علي تركها، لأنّه قد أتي بها بنحو فاسد خاطئ، وبالعكس علي القول الآخر، فإنّه لا يعاقب علي ما أقرّ به من أُصول الدين، بل غايته أنّه لا يثاب عليها، وغاية ما يعاقب عليه علي هذا القول يقتصر علي ترك ولاية وليّ اللَّه.

فبين القولين جهات من الفرق واضحة، فعلي القول الثاني تضعف شدّة لون ولاية الإمام في الأعمال، بخلافه علي القول الأوّل؛ فإنّ التركيز فيه واضح، وباب العبادات أحد الأقسام الأربعة لمجموع الفقه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 219

الضريبة المالية: … ص: 219

ثالثاً: الخمس، وهو وإن كان من العبادات، إلّاأنّ الكلام فيه من حيثية أُخري، وهي جواز التصرّف فيه بإيصاله إلي المصارف الشرعية. وقد اختلفت التخريجات في ذلك، فمن تخريج أنّه من باب مجهول المالك، ومن ثمّ يحتاط بالتصدّق به عنه (عج) عند صرفها في المصارف الشرعية.

فيكون مستند جواز التصرّف حكم مجهول المالك، لا المأذونية المنشعبة من ولاية الإمام عليه السلام.

وقيل: بجواز التصرّف والإيصال إلي المصارف الشرعية من باب أنّ الخمس هو لمقام الحاكم والحكومة، وإن كان بعض مصارفه الذرّية من بني هاشم زادهم اللَّه شرفاً- وعلي ذلك فكلّ من يتصدّي للحكم الشرعي يسوغ له التصرّف، وإن كانت صلاحية حكمه قد انبثقت من ولاية الأُمّة علي نفسها، وبالتالي فلا يكون التصرّف في الخمس بأذنٍ منه عليه السلام، بل ولا تكون ولايته علي الخمس فعلية حينئذٍ.

وقيل: تخريج الجواز المزبور من باب الحسبة؛ إذ الأصل عدم ثبوت ولاية نيابية للمجتهد من قبل المعصوم. إلي غيرها من التخريجات التي تبتني علي عدم استفادة الجواز من المأذونية منه (عج) باعتبار ولايته علي الخمس.

فهي إمّا

تعطّل ذات الولاية التي له (عج)، أو تعطّل آثار الولاية، مع أنّ جعل الخمس بنصّ الآية وكذلك الفي ء هو لذي القربي المعصومين؛ لمكان التعليل في آية الفي ء بإقامة العدالة المالية في المجتمع، قال تعالي: «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» «1»

حيث إن إرساء العدالة يتوقّف علي العلم اللدني التامّ المحيط بنظم المال والنقد والاقتصاد، وغيرها من المنابع والحقول المالية وموارد البيئة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 220

الأُخري لتداول المال، كما يتوقّف علي علوم الإدارة والتدبير الثاقبة، وعلي الأمانة البالغة لدرجة العصمة العملية.

فالولاية للخمس والفي ء خاصّة به (عج)، وولايته فعلية غير معطّلة إلي أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وكلّ صلاحية ومأذونية يجب أن تكون من قبل شخصه الشريف، نظير التوقيع الشريف: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا»، ونحو ذلك مما يستشفّ منه المأذونية.

وقد يُظنّ أنّ قاعدة الحسبة أوفق بالاحتياط، حيث إنّها مبتنية علي عدم ثبوت النيابة للمجتهد من قبل المعصوم، وإنّ ما يتصدي له المجتهد من الأُمور العامّة إنّما هو من باب الجواز التكليفي المحض، لا المأذونية النيابية، وفي الحقيقة فإنّ قاعدة الحسبة في أصلها مبنية- كما هي لدي جمهور أهل سنّة الجماعة- علي عدم وجود المنصوب للولاية العامّة بالنصّ الإلهي، فيتمسّك لجواز التصرّف بتقرير مقدّمات الحسبة، فمؤدّي الحسبة في الحقيقة مبنية علي عدم لزوم تولّد الجواز من قبل إذنه (عج)، وبالتالي عدم انحصار انشعاب المأذونية من ولايته.

السلطة في النظام العالمي: … ص: 220

رابعاً: الجهاد الابتدائي فإنّه قد أطبقت الإمامية علي اختصاص هذا المقام بالإمام المعصوم عليه السلام، حيث إنّ الجهاد الابتدائي في لغة القانون الوضعي الحديث يوازي ويعادل الوصاية علي المجتمعات البشرية، والنظام المدني العالمي الموحّد لإرساء العدالة العالمية في جميع أرجاء الكرة الأرضية، في نظام موحّد عالمي،

ويكون بيده القرار الأوّل في مصير البشرية. وهذا مقام حسّاس خطير لا يتأهّل له غير المعصوم، فمن الغريب بعد ذلك التمسّك بذيل قاعدة الحسبة وتقرير مقدّمات لتصوير جواز التصدّي لغير المعصوم لهذا الشأن والمقام الخطير.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 221

النظام الإيماني في النظام المدني: … ص: 221

خامساً: باب النكاح مع أهل الخلاف. فقد ذهب كثير من المتقدّمين إلي عدم جواز نكاح المؤمنة من غير المؤمن لا سيما غير المستضعف، كالمعاند. وذهب المتأخّرون إلي الكراهة أو إلي تقيّد المنع إذا خِيف علي إيمانها، وفي بعض ما ورد في ألسن الروايات كراهة تزويج المؤمن بغير المستضعفة، ونظير ذلك ورد في باب الذبائح من التفصيل بين ذبيحة المستضعف وبين ذبيحة المعاند.

المشاركة في الأنظمة الوضعية: … ص: 221

سادساً: باب الولايات في الأنظمة الوضعية. فقد ورد أنّ تسلّم أحد المناصب في الأنظمة المزبورة مشروط إمّا بالإكراه، وإمّا بغرض خدمة المؤمنين وقضاء حوائجهم.

وفي الحقيقة أنّ هذا الجواز ليس تكليفاً محضاً، وأنّما هو مأذونية منه عليه السلام وبماله من الولاية.

الإمامة والنظام المالي: … ص: 221

ونظير ذلك باب إحياء الموات، من أحيا أرضاً فهي له، فإنّ الجواز هنا مأذونية منهم عليهم السلام لولايتهم. وكذلك باب التعامل المالي في أشكاله المختلفة من المداولات المالية مع الأنظمة الوضعية، كما في شراء المقاسمات والخراج وإجارة الأراضي وقبول المنح، وغيرها، فهو إذن تسهيلي منهم عليهم السلام؛ لكونهم الحكّام الأصليين في الحقيقة، وبيدهم شرعاً زمام الأمور، فلا يكون من مجهول المالك ونحو ذلك. كما ورد عنهم عليهم السلام «لك المهنا وعليهم الوزر»، ومن ثمّ قال الشيخ المفيد في المقنعة: (.. ومن تأمّر علي الناس من أهل الحقّ بتمكين ظالم له

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 222

وكان أميراً من قبله في ظاهر الحال، فإنّما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوّغه ذلك وأذن له فيه، دون المتغلّب من أهل الضلال) «1».

وقد تقدّم أنّ الصلاحية في باب القضاء وإقامة الحدود والقصاص وغيرها من أبواب إقامة الحكم، هي نيابية لا بالأصالة، ناشئة من المأذونية منه (عج)، لا من تراضي المتنازعين في باب الخصومات، ولا من تولية الناس والأُمّة، ولا من باب قاعدة الحسبة التي مؤدّاها جواز التكليف المحض وتطاول علي ولايته في هذه الأبواب من الحكم والحكومة، كما ورد قول أمير المؤمنين لشريح القاضي: «قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّانبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقي» «2».

والمراد من الحصر في كلامه عليه السلام: الحصر في مقام الصلاحية التي هي بالأصالة، فلا تنافي الصلاحية التي هي بالنيابة بالإذن من

قبلهم عليهم السلام، حيث يكون فيها الفقيه تابعاً لنظام القضاء عندهم عليهم السلام.

والحاصل، إنّ أزمّة وزمام عقال الأبواب الفقهية تتناهي إلي ولايتهم عليهم السلام، التي هي تابعة إلي ولاية الرسول، وبالتالي إلي ولاية اللَّه، والتركيز علي هذا اللون والحيثية والجهة في الأبواب الفقهية، يضبط سلامة النتائج في التفاصيل؛ بسبب استقامة البنية الأصلية في قواعد الأبواب المحكّمة فيها.

هذا فضلًا عن حجّية أقوال وفعل وتقرير المعصوم عليه السلام كمصدر في الأدلّة الشرعية الأصلية، فالحجّية في إبلاغ الشريعة والأخذ بالأحكام الشرعية عنهم عليهم السلام؛ لدورهم وصلاحيتهم التشريعية التابعة لسنن النبي صلي الله عليه و آله التابعة لفرائض اللَّه تعالي، حيثية تغاير حيثية ولايتهم عليهم السلام في نظام القانون والفقه بما هم ولاة أمر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 223

وحكّام من قبل الرسول صلي الله عليه و آله، ومن قبله تعالي عزّ اسمه، فلا يكفي في البحث الفقهي الالتفات إلي إحدي الحيثيتين وهي الحجّية مع الغفلة عن الحيثية الأُخري وهي ولايتهم في الحكم والحكومة، بل اللازم الالتفات إلي تمام الحيثيات التي لهم عليهم السلام في الأبواب الفقهية، لا الاقتصار علي الاثنتين فضلًا عن الاقتصار علي الواحدة منهما.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 225

حرمة طاعة حكام الجور والطواغيت … ص: 225

قال بعض: إنّ مثل معاوية ويزيد والحجّاج طاعتهم لازمة، وتولّي الجائرين واجب بالعنوان الثانوي، ويستدلّ علي ذلك بضرورة حفظ النظام وأنّه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، والدليل أجنبي عمّا يتديّن به القائل من طاعة حكّام الجور وتولّيهم، وبيان ذلك بوجوه:

الأوّل: إنّ ضرورة الفعل وهو النظم لا تدلّ علي مشروعية فاعلية الفاعل، نظير السجّان الذي يسقي المحبوس لديه المشرف علي الهلاك ماءً غصبياً لا يدلّ علي إباحة الماء؛ لأنّ شرب الماء للسجين المظلوم لا يوجب حسناً فاعلياً للفاعل، بل

يوجب سوءً في فاعلية الفاعل. ولهذا الأمر أمثلة عديدة ذكرها علماء الأُصول، نظير من يتوسّط الدار الغصبية فإن خروجه ضرورة بحكم العقل، ولكنّ ذلك لا يعني عدم العقاب للفاعل علي الخروج مع كونه بضرورة العقل. ونظير ذلك قوله تعالي: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ» «1»

، فإنّه تعالي أحلّ الميتة عند الضرورة لأكلها، واستثني من يتعمّد إلقاء نفسه في الهلكة، كأن يسلك طريقاً صحراوياً من دون مؤونة فيضطرّ إلي أكل الميتة، فإنّ مثل هذا الشخص الذي يوقع نفسه في هذا الاضطرار أكله ضروري بحكم العقل، ولكن تلك الضرورة لا ترفع عنه العقاب وسوء فاعليته.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 226

وكذلك من يذهب بنفسه إلي مجلس يعلم بأنّه سيُكره علي الفعل الحرام كالزنا والفاحشة وشرب الخمر، فإنّه بعد ذهابه إلي ذلك المجلس يكون إتيانه للفعل ضرورة؛ لوقوعه في الإكراه، ولكنّ ذلك لا يكون عنواناً ثانوياً رافعاً لحرمة الفعل.

ومن ثمّ قال علماء الأُصول: إنّ التسبّب للوقوع في الاضطرار للضرورات لا يرفع الحرمة، وإن كان رافعاً لفاعلية (خطاب الحكم) ومحرّكية حرمة الفعل المسمّاة بخطاب الحرمة.

الثاني: إنّه بمقتضي تمسّكه بوجوب حفظ النظام المدني من الأموال والأعراض والنفوس، يجب تولّي الحاكم الكافر والاستعمار الأجنبي علي حسب كلام هذا القائل- وإطاعته، ويلزم مشروعية حكومته؛ للضرورة المزبورة حسب ذلك الزعم.

الثالث: إنّ ضرورة حفظ النظام أيّ علاقة لها مع مشروعية حكم الحاكم الجائر ومشروعية تولّيه والركون إليه قلباً وقالباً، بل غاية لزوم حفظ النظام هو لزوم الكفّ عمّا يسبّب المزيد من الفساد والهرج والمرج إذا كان أهل الحقّ لا قدرة لهم علي إزالة الجائر، ولزوم إعتماد جانب التقية (سياسة الأمن)، لا الموالاة للظالم الجائر، وكم البون بعيد بين الأمرين.

الرابع: إنّ حفظ النظام هو الذي يوجب

إزالة النظام الجائر في جملة من الصور والموارد، كما إنّ حفظ النظام يقتضي دوام إنكار المنكر، وهو علي درجات: بدءاً من القلب وهو لا يسقط بحال، ثمّ اللسان (المعارضة الإعلامية)، فاليد (المعارضة التغييرية)؛ وذلك لأنّ الجور يتعدّي علي أوّليات الحقوق الأوّلية في النظام الاجتماعي، فكيف يُتوهّم أنّ حفظ النظام يقتضي ترك إنكار المنكر فضلًا عن اقتضائه التولّي والذوبان في الجور وولاء الظلم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 227

الخامس: قوله تعالي: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» «1»

و:

«يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» «2»

و: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي لَاانْفِصَامَ لَهَا» «3»

، تبين هذه الآيات حرمة الركون إلي الظالم الجائر والطاغوت بل يجب الكفر به والتمرّد عليه، كما قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «من رأي سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام أو تاركاً لعهد اللَّه ومخالفاً لسنّة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فعمل في عباد اللَّه بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً علي اللَّه أن يدخله مدخله» «4».

السادس: إنّ ملف سيرة الغاصبين لخلافة أهل البيت عليهم السلام، وبدعهم وضلالاتهم، يبرهن إمتناع مشروعية خلافتهم تظلّ مع منكر أفعالهم؟ فهل مع هذا الملف من الضلالات تبقي مشروعية خلافتهم تحت عنوان ضرورة حفظ النظام؟

وهل ضرورة حفظ النظام تستلزم الضلالات والبدعة والظلم في الحكم؟

السابع: إنّ العنوان الثانوي كما حُرّر في علم الأُصول لا يرفع واقع الحكم وملاكه من المصلحة أو المفسدة في الفعل، وإنّما يرفع العقوبة والمؤاخذة، بشرط أن لا يكون الإقدام علي الاضطرار بسوء الاختيار، وإلّا فلا ترتفع العقوبة أيضاً.

الثامن: ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام من الامتناع علي أصحاب السقيفة في

الامامة الالهية(5)،

ج 2، ص: 228

مؤامرتهم، وكذلك مواجهة الصدّيقة الزهراء لأبي بكر، وكذلك مقاطعة الحسن لمعاوية ومواجهة الحسين عليه السلام ليزيد، وهم أهل بيت التطهير الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهم الثقل الثاني الذين أُمرنا بالتمسّك بهم، بل كلّ أئمّة أهل البيت من الحسن المجتبي والسجّاد وبقية الأئمّة عليهم السلام، كانوا علي حرب مقاطعة مع سلطات بني أُمية وبني العبّاس، ومجانبة للحكم الجائر، ولذلك قُتلوا وسُبوا وشُرّدوا عن أوطانهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 229

أبواب المعرفة

الفصل السادس: أقسام الصلاحيات المفوّضة لهم عليهم السلام … ص: 229

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 231

أقسام الصلاحيات المفوَّضة لهم عليهم السلام

والغرض من الخوض في بحث التفويض (الصلاحيات المفوّضة) ليس بسط الكلام فيه ولا استعراض أدلّة وجوه البطلان في أقسامه أو الصحيحة منه، بل الغاية من ذلك التنبيه علي تعدّد أقسامه وتكثّرها وتباينها عن بعضها البعض، وأنّ جملة من أقسام الصلاحيات المفوّضة ليست تفويضاً عُزْلياً بعزل قدرة وهيمنة الباري تعالي، كما يتوهّمه غير المتضلّع في علوم المعارف، بل هي من باب إقداره تعالي، وهو أقدر فيما أقدر غيره علي ذلك الشي ء.

الأقوال في التفويض: … ص: 231

قال الشيخ المفيد قدس سره: (التفويض: هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة بما شاؤا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين أنّ اللَّه أقدر الخلق علي أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض لهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 232

عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) «1».

قال المجلسي في البحار: (وأمّا التفويض: فيطلق علي معاني بعضها منفي عنهم عليهما السلام وبعضها مثبّت لهم.

فالأوّل: التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا إنّ اللَّه تعالي خلقهم وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون …

ثمّ ذكر لهذا القول وجهين، حكم بأنّ أحدهما كفر صريح، والآخر دلّت الأخبار علي المنع عنه، ثمّ قال:

الثاني: التفويض في أمر الدين وهذا أيضاً يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون اللَّه فوّض إلي النبيّ والأئمّة عليهم السلام عموماً أن يحلّوا ما شاؤا ويحرّموا ما شاؤا من غير وحي وإلهام، أو يغيّروا ما أُوحي

إليهم بآرائهم، وهذا باطل لا يقول به عاقل؛ فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله كان ينتظر الوحي أياماً كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده وقد قال تعالي: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» «2».

وثانيهما: أنّه تعالي لمّا أكمل نبيّه صلي الله عليه و آله بحيث لم يكن يختار من الأُمور شيئاً إلّا ما يوافق الحقّ والصواب ولا يحلّ بباله ما يخالف مشيئته تعالي في كلّ باب، فوّض إليه تعيين بعض الأُمور، كالزيادة في الصلاة، وتعيين بعض النوافل في الصلاة والصوم وطعمة الجدّ، وغير ذلك ممّا مضي، وسيأتي إظهاراً لشرفه وكرامته عنده، ولم يكن أصل التعيين إلّابالوحي، ولم يكن الاختيار إلّابالإلهام،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 233

ثمّ كان يؤكّد ما اختاره صلي الله عليه و آله بالوحي، ولا فساد في ذلك عقلًا، وقد دلّت النصوص المستفيضة عليه ممّا تقدّم في هذا الباب وفي أبواب فضائل نبيّنا صلي الله عليه و آله.

ولعلّ الصدوق إنّما نفي المعني الأوّل حيث قال في الفقيه: وقد فوّض اللَّه عزّوجلّ إلي نبيه صلي الله عليه و آله أمر دينه ولم يفوّض إليه تعدّي حدوده وأيضاً هو رحمه اللَّه قد روي كثيراً من أخبار التفويض في كتبه ولم يتعرّض لتأويلها.

الثالث: تفويض أُمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم، وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبّوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما يعلموا، وهذا حقّ لقوله تعالي: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

وغير ذلك من الآيات والأخبار، وعليه يحمل قولهم عليهم السلام: «نحن المحلّلون حلاله والمحرّمون حرامه»، أي بيانهما علينا ويجب علي الناس الرجوع فيهما إلينا، وبهذا الوجه ورد خبر أبي إسحاق والميثمي.

الرابع: تفويض بيان العلوم والأحكام بما

رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم أي عقول الناس- أو بسبب التقية، فيفتون بعض الناس بالواقع من الأحكام وبعضهم بالتقية، ويبيّنون تفسير الآيات وتأويلها، وبيان المعارف بحسب ما يحتمل عقل كلّ سائل، ولهم أن يبيّنوا ولهم أن يسكتوا، كما ورد في أخبار كثيرة «عليكم المسألة وليس علينا الجواب»، كلّ ذلك بحسب ما يريهم اللَّه من مصالح الوقت، كما ورد في خبر ابن أشيم «2» وغيره.

وهو أحد معاني خبر محمّد بن سنان في تأويل قوله تعالي: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» «3»

، ولعلّ تخصيصه بالنبيّ صلي الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام لعدم تيسّر هذه التوسعة لسائر الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، بل كانوا مكلّفين بعدم التقية في بعض الموارد، وإن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 234

أصابهم الضرر والتفويض بهذا المعني أيضاً ثابت وحقّ بالأخبار المستفيضة.

الخامس: الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما يلهمهم اللَّه من الواقع ومخّ الحقّ في كلّ واقعة، وهذا أظهر محامل خبر ابن سنان، وعليه أيضاً دلّت الأخبار.

السادس: التفويض في العطاء فإن اللَّه تعالي خلق لهم الأرض وما فيها وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا وغيرها، فلهم أن يعطوا ما شاؤوا ويمنعوا ما شاؤوا كما مرّ في خبر الثمالي وسيأتي في مواضعه. وإذا أحطت خبراً بما ذكرنا من معاني التفويض سهل عليك فهم الأخبار الواردة فيه وعرفت ضعف قول من نفي التفويض مطلقاً ولمّا يحط بمعانيه. «1»

وقال الحكيم الفقيه الشاه آبادي في كتابه رشحات البحار:

(المطلب الثالث عشر في الولاية التشريعية، وهي قسمان:

الأوّل: معرفة النبيّ والوليّ بأنّهم المقرّبون الواقعون في مرتبة الإطلاق والمشيئة، بحيث لم يكن بينهم وبين اللَّه أحد، وهي من العقائد اللازمة في الشريعة، ومعرفتهم بالنورانية؛ لأنّهم أولياء النعم، حيث إنّ

نعمة الوجود وكمالاته تحصل بمشيئته وهم صاروا مشيئته، والفرق بينهم وبين الوجود المطلق هو المشيئة، إنّ النقطة قد أخذت القرب من غير اختيار وهم أخذوها.. بالاختيار والامتحان وليست الحقيقة الإطلاقية إلّاأمراً واحداً، والأفراد عين الطبيعة المطلقة، فتدبّر فيه.

الثاني: الاعتقاد بأنّهم ولاة الأمر وأنّهم أولي بالأنفس، كما قال صلي الله عليه و آله في الغدير:

«ألست أولي بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلي. فقال صلي الله عليه و آله: من كنت مولاه فهذا علي مولاه»، كما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 235

رواه العامّة في أزيد من ثمانين طريقاً، والخاصّة أزيد من أربعين طريقاً واصلًا إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، بداهة أنّ الوليّ في المقام لا يمكن أن يكون معناه إلّاالسيد والأولي بالأمر؛ لعدم مناسبة سائر المعاني من استنطاقه صلي الله عليه و آله وإقرارهم له صلي الله عليه و آله بأولويّته علي الأنفس، كما لا يخفي علي المنصف غير المتعصّب.

مضافاً إلي أن هذه الولاية والأولويّة من توابع الولاية الأوّلية فالتشريع علي طبق التكوين، يعني فكما أنّهم توابع لهم وجوداً وتحقّقاً في الواقع، وهم تحت لوائهم ذاتاً واصلًا، فلابدَّ وأن يكونوا لهم طوعاً وتبعاً في الظاهر حتّي يطابق الظاهر الباطن، اللّهمّ اجعلنا ممّن اعتقد بولايتهم ظاهراً وباطناً وممّن يواليهم ظاهراً وباطناً..) انتهي كلامه قدس سره.

أقسام التفويض: … ص: 235

ولنبسّط الكلام في أقسام صلاحياتهم وما خُوّل إليهم في شؤون الدين الحنيف بترتيب آخر، سواء في التبليغ أو التشريع أو إقامة الشرع الحنيف:

القسم الأوّل: في كونه صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام هم الباب والدلائل علي شرع اللَّه تعالي، وهو ما يعبّر عنه في علم القانون الحديث بالناطق الرسمي لإمضاء ونفوذ القانون، فلا يؤدّي عن اللَّه تعالي إلّاهو صلي الله عليه

و آله، وأهل بيته عليهم السلام عنه.

وبعبارة أُخري: إنّ التشريع في مرحلته الإنشائية لا يكون نافذاً ولا مدوّناً وثابتاً في منظومة التشريع إلّابعد أن يُصوّب انفاذه، فما لم يبرز إنشاء التشريع عبر القناة المخوّلة لذلك لا يكون ذلك التشريع إلّافي مرحلة الأطوار البدائية للحكم غير الواصل إلي مرحلة البلوغ التامّ. وهذه المراحل في الحكم الإنشائي وأطواره مغايرة لمرحلة تطبيق التشريع في الخارج علي الموضوعات، أي ما يسمي بالحكم الفعلي الجزئي.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 236

فقناة التبليغ والمبلّغ لهما تمام الموضوعية في رسمية القانون والتشريع المبرم المحكم، وفي الحقيقة مقتضي ما حُقّق في علم الأُصول من أنّه ليس هناك إنشاء محض خالي عن الإخبار، بل كلّ من الإنشاء والإخبار ممتزج ومتداخل مع الآخر غاية الأمر أحدهما بالمطابقة والآخر بالدلالة الالتزامية. ففي الإخبار المُخبِر وإن لم يكن يُنشئ المخبر به بل يحكيه ويدلّ عليه، إلّاأنّ الحكاية والدلالة أمر ينشأ فيُوجد، فالمخبر به وإن لم يكن إنشائياً إلّاأنّ الإخبار نفسه كفعل أمر إنشائي بضرب من ضروب الإنشاء، بل هناك دلالة إنشائية أُخري في الإخبار أيضاً وهي إنشاء المخبر للشهادة بمضمون الإخبار، ويتعهّد ويلتزم بصدق ما يخبر به هذا في الإخبار.

أما في الإنشاء فهو وإن كان بالمطابقة إيجاد اعتباري للمعني المُنشأ، إلّاأنّ فيه مداليل خبرية أيضاً، منها: إخبار عن وجود إرادة جدّية له بمضمون الإنشاء. ومنها:

الإخبار عن وجود مصلحة أو مفسدة فيما يأمر به أو ينهي عنه في موارد إنشاء الطلب والتشريع والتقنين. ومنها: الإخبار عن وجود داعي للإنشاء، وهذا في جميع الأقسام الثمانية أو التسعة من أبواب الإنشاء، وغير ذلك من المداليل الأُخري.

وإذا اتّضحت هذه المقدّمة، يتبيّن عدم وجود إخبار محض في بيان الأحكام عن اللَّه تعالي، بل هو

مندمج ومشوب بضرب من الإنشاء، ومن ثمّ كان النطق الرسمي في القنوات الوضعية في الأنظمة السياسية في الدول إنشاء تفعيلي للتشريع، فإبراز وإيصال الأحكام من قبل الناطق عن السماء منصبٌ تشريعيّ يرسم فعلية التشريع، ومن ذلك يتبين الغفلة السطحية في حسبان أنّ الائمّة عليهم السلام قناة تبليغية معتادة كالرواة، أو عملية خبروية معتادة كالفقهاء والقانونيين في إيصال الأحكام.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 237

وفي ظلّ هذا القسم يتبيّن دخالة موقعية الرسول صلي الله عليه و آله في التشريعات الصادرة من الباري تعالي، عطية منه لنبيّه صلي الله عليه و آله، فالمخبر بالقرآن والمبلّغ لكلّ ما فيه عن اللَّه إنّما هو النبيّ صلي الله عليه و آله. وكذلك الحال في بقية فرائض اللَّه في الأحاديث القدسية، وهذه المرتبة الخطيرة في شؤون التشريع من المصادقة علي تشريعات السماء، فضيلة منه تعالي حباها لنبيّه صلي الله عليه و آله، وهذا الموقع في شؤون الدين ثابت في الجملة للأئمّة عليهم السلام فيما يبلّغونه عن الرسول عن اللَّه تعالي، في تلك الموارد التي لم يتلقّاها الناس عن النبيّ صلي الله عليه و آله وإنّما أدّاها النبيّ صلي الله عليه و آله ولا زال يؤدّيها إلي خاصّة عترته، بحسب ما لديه ولديهم من ارتباط لدني غير مقصور علي حال الحياة.

ومن أمثلة هذا القسم: تبليغ سورة البراءة، ويشير إلي هذا القسم قوله تعالي:

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «1»

، وقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «2»

، وغيرها من الآيات المتضافرة في هذا الشأن له صلي الله عليه و آله.

وأما الآيات المتعرّضة لإثبات هذا الشأن لهم

عليهم السلام، فقوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «3»

، بضميمة قوله الآخر:

«وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» «4»

، فدلّت الآيتان علي وجود مجموعة في هذه الأُمّة قد أُودعوا الكتاب مُبيّناً كله في صدورهم، ومع دوام وأبدية حاجة الناس إلي الكتاب الذي لا تنفذ كلماته وبحور

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 238

علومه فتدوم الحاجة لوجود هذه المجموعة الذين شهد لهم القرآن بالقدرة علي بيان الكتاب كلّه إلي يوم القيامة، ونظيره قوله تعالي: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، بضميمة قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2»

وغيرها من الآيات التي سنستعرضها في الأبحاث اللاحقة.

أما الروايات فهي ما رواه الفريقان عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «لا يبلّغ عنّي إلّاأنا أو رجل منّي أو قال من أهل بيتي» «3»

، وهذا الحديث النبويّ أصله حديث قدسيّ جاء به جبرئيل للنبيّ صلي الله عليه و آله: «لا يبلّغ عنك إلّاأنت أو رجل منك»، ونقل أيضاً في حديث..

قال ثمّ بعث أبا بكر بسورة التوبة فبعث عليّاً عليه السلام خلفه فأخذها منه، قال: «لا يذهب بها إلّارجل منّي وأنا منه» «4».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 239

والظاهر أنّ مفاد صدور هذا الحديث في عدّة مواطن، منها: إبلاغ سورة البراءة كما تقدّم، ومنها: في عام حجّة الوداع حيث قال صلي الله عليه و آله: «إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن

بعدي، لا يؤدّي عنّي إلّاأنا أو عليّ» «1».

ومفاد هذا الحديث وحديث البراءة وإن كان سيأتي بسط دراية معناه لاحقاً، إلّا أنّه تجدر الإشارة إلي المعني الظريف في مفاده، وهو تعبيره تعالي: «لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك»، لا يخلو من ظرافة بلاغية ومعرفية استعمل فيها التجريد، حيث افترض في الحديث القدسيّ والنبويّ أداء النبيّ صلي الله عليه و آله عن نفسه، وهو لا يتمّ تصوّره إلّابتجريد مرتبة ومقام عالي للنبيّ صلي الله عليه و آله يؤدّي عنه، أي عن تلك المرتبة منه تؤدّي المرتبة النازلة منه، أي يؤدّي المرتبة الجسمانية النفسانية منه عن المرتبة النورية منه القلبية، وهذا يقتضي أنّ علياً عليه السلام يتحمّل عن المرتبة النورية من النبيّ صلي الله عليه و آله ويبلّغ عنه بلحاظ ذلك المقام النوري، لا عن الجسماني فقط، لا سيّما وأن أحد مواطن صدور الحديث هو في إبلاغ سورة من القرآن إلي أسماع

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 240

البشرية تبليغاً عن السماء في أوّل نطق رسمي بهذه السورة.

القسم الثاني: التفويض في بيان تأويل الكتاب وبطونه قال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ» «1»

، فأجزاء الشريعة جلّها في بطون الكتاب وتأويله، وإن كانت أُصولها في ظاهر الكتاب، سواء ذلك في المعارف والأُصول الاعتقادية، أو في الأحكام والفروع، ومن ثمّ كان بطون الكتاب سبعين بطناً وظاهره واحد، مع أنّ السبعين كناية عن الكثرة التي لا تُحصي، كقوله تعالي: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ

لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» «2».

وكذلك الحال في التأويل فإن التأويل للكتاب لا يقف علي موارد النزول، بل يدور مدار العصور والدهور، بل يعمّ النشأتين والنشآت وما فوقها من العالم الربوبي، وقد قال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «3»

، وقال تعالي: «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» «4»

، وقال تعالي:

«لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «5»

، وقال تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «6»

، وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «7».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 241

أمّا الروايات «1» فقد عقد في ملحقات إحقاق الحقّ «2» باباً بعنوان: أنّ عليّاً يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي تنزيله، وأورد في الباب ما يقرب من ستّة أحاديث وأخرج لكلّ حديث عدّة طرق من مصادر العامة.

منها: ما رواه الحافظ أحمد بن حنبل في مسنده «3»، قال: «حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، حدّثني وكيع، حدّثني قطر عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل علي تأويله كما قاتلت علي تنزيله قال: فقام أبو بكر وعمر «4»، فقال: لا، ولكن خاصف النعل، وعليّ يخصف نعله».

ومنها: ما رواه النسائي في الخصائص بسنده إلي أبي سعيد الخدري، قال:

«كنّا جلوساً ننتظر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فخرج إلينا قد انقطع شسع نعله، فرمي به إلي عليّ عليه السلام فقال: «إنّ منكم رجلًا يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله.

قال أبو بكر: أنا. قال: لا. قال عمر: أنا. قال: لا. ولكن خاصف النعل» «5».

ومنها: ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك «6» «ألا أنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله. واستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر … الخ».

وبسط الكلام في هذا القسم من مقاماتهم عليهم السلام، وإن كان سيأتي لاحقاً في الأبواب القادمة، إلّاأنّه ينبغي التنويه بذكر نبذة من ذلك، وهو أنّه لابدّ من تبيّن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 242

وبيان لتأويل الكتاب العزيز، كما تقدّم ذلك في مفاد الآيات، وقد عُيّن هذا الدور الخطير بعد الرسول صلي الله عليه و آله وأُوكل إلي عليّ ووولده عليهم السلام، كما صرّحت بذلك الآيات، كآية التطهير ومسّ المطهّرين للكتاب المكنون.

وكذلك نصّت علي ذلك الأحاديث النبويّة، نظير الحديث المتقدّم: «تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي تنزيله»، وهذا ممّا يقتضي إسناد مقام إلهي إلي عليّ وأهل البيت عليهم السلام مؤازراً لمقام النبوّة. وإنّ علم تأويل الكتاب كلّه لدي عليّ وأهل بيته عليهم السلام وراثةً عن النبيّ صلي الله عليه و آله بوراثة لدّنية لا كسبية.

فتبيّن: أنّ عليّاً وولده هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن، وأنّ الأُمّة إلي يوم القيامة مضطرّة ومحتاجة إليهم ما بقيت الأُمّة محتاجة إلي الكتاب العزيز، وما بقي دين الإسلام خالداً للبشر، لكلّ البيئات والعصور المختلفة.

والجدير بالإشارة أنّه قد قُرن في مفاد الروايات بين دور الرسول صلي الله عليه و آله وبين دور أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّ الدور الثاني عدل للأوّل، نظير ما في حديث الثقلين من عدلية أهل البيت عليهم السلام للكتاب، إلّاأنّ هاهنا قد جُعلت القيمومة علي تنزيل القرآن للنبيّ صلي

الله عليه و آله، والقيمومة علي تأويله مهمّة علي عاتق أمير المؤمنين وولده المعصومين عليهم السلام وراثة من قيمومة النبيّ صلي الله عليه و آله علي التأويل.

وكما أنّ دور النبيّ صلي الله عليه و آله في التنزيل هو انتداب من الغيب إلي الشهادة، فكذلك الحال في دورهم في التأويل، فالحديث يدلّ علي المشاطرة بين التنزيل والتأويل في اكتمال بيان حقيقة القرآن، وبالتالي مشاطرتهما في تأليف مجموع الشريعة ومشاركتهما في مجموع أبواب الدين.

القسم الثالث: صلاحيته صلي الله عليه و آله في سنّ الأحكام والتشريعات المتنزّلة من أُصول تشريعية قد شرّعها اللَّه عزّوجلّ، وهذا ما يعبّر عنه في علم القانون بالتشريعات المستمدّة من الأُصول القانونية، والظاهر أنّ كلّ تشريعات الرسول هي من هذا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 243

القبيل، وقد أُطلق عليها في الشريعة عنوان واسم السنّة (أي السنّة النبوية) «1»، في مقابل الفريضة.

وقد أُشير إليه في متواتر الروايات الآتية «2» نظير صحيحة الفضيل بن يسار قال:

«سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إنّ اللَّه عزّوجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «3»

، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة؛ ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «4»

، وأنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطأ في شي ء ممّا يسوس به الخلق» «5»

ثمّ ذكر عليه السلام جملة من سنن النبيّ صلي الله عليه و آله المضافة إلي فرائض اللَّه تعالي وستأتي تتمّة الحديث في المقالات اللاحقة.

وظاهر الروايات أنّ كلّ تشريعات الرسول صلي الله عليه و آله التي بمعني إنشاء الحكم الجديد هي من هذا

القبيل، وكذا الحال في تشريعاتهم عليهم السلام فإنّها في طول الأُصول القانونية القرآنية والنبويّة.

ولابدَّ من الالتفات إلي أنّ الأُصول التشريعية القانونية ليست علي مرتبة واحدة، فبعضها فوقاني جدّاً يُعدّ في الصدارة والمرتبة الأُولي من التشريعات الأديانية، نظير المراتب في المواد الدستورية، وبعضها متوسّطات، وبعضها الآخر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 244

مراتب منشعبة، والتنظير بين منظومة التشريعات في الدين ومنظومة التشريعات الدستورية ليس من كلّ وجه؛ لأنّ مجموعة القوانين الدستورية هي لنظام الدولة الذي هو أحد الأبواب العديدة في التشريع الديني، وإنّما التشبيه هو من جهة عموم بحث مراتب التشريع وكيفية ترامي المراتب نزولًا وصعوداً.

وبعبارة أُخري: كما للمجالس النيابية دور تشريع في طول وتبع للأُصول والمواد الدستورية إلّاأنّ هذه التبعية لا تلغي ما لتلك المجالس من دور وصلاحية تشريع، كما أنّ تلك الولاية والسلطة المفوّضة للتشريع لتلك المجالس النيابية لا يُنفي تبعيتها لأُصول الدستور، وكذلك الحال في التشريعات الوزارية فإنّها تبع لتشريعات المجالس النيابية من دون تنافي بين التبعية و تفويض صلاحية التشريع، وهذا المثال لبيان ظاهرة تنزّل التشريعات والاشتقاق القانوني والاستخراج الذي هو ليس عملية تطبيق محض كالكلّي والفرد، بل استخراج وانشعاب وتنزّل وتولّد، نظير تولّد نظام النقد العادل من أجل إرساء العدالة الاجتماعية، وهذه الظاهرة القانونية بديهية في علم القانون.

وعلي ضوء هذه القاعدة في أُصول التشريع يتّضح أنّ الأُصول التشريعية النبويّة حيث إنّها تنزيل وتنزّل للأُصول التشريعية من قبله تعالي، يتّضح المراد من فوقية الأُصول التشريعية الإلهية علي الأُصول التشريعية النبويّة، بمعني ضرورة نُشوء الأصل التشريعي النبويّ من أصل تشريعي إلهي، لا بمعني فوقية مجموع الأُصول التشريعية الأُولي علي الأصل التشريعي الثاني. فقد يكون الأصل النبويّ هو فوق أصل تشريعي إلهي آخر، وفي الحقيقة أنّ الأصل

التشريعي الأوّل الذي استمدّ منه الأصل التشريعي النبويّ هو فوق الأصل التشريعي الآخر، ومن ثمّ يعرض متشابه القرآن علي محكم كلّ من القرآن والسنّة النبويّة، كما يعرض متشابه السنّة علي محكم كلّ منهما.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 245

القسم الرابع: صلاحية الخيار لهم في البيان والعمل بين الحكم الواقعي والظاهري، بل يمتدّ هذا الخيار في درجات الحكم الواقعي نفسه، حيث بيّن القرآن الكريم أنّ للحكم الواقعي وللحقّ مراتب، إذ قال تعالي: «وَدَاوُدَ وَسُلَيَمانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيَمانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا» «1»

، فقرّر تعالي أنّ كلّاً من الحكمين حقّ مع اختلافهما.

وكذلك ما قصّه القرآن الكريم عن النبيّ موسي والخضر عليهما السلام، وقد استعرضت سورة الكهف ثلاث قضايا وهي بالتأمّل ليس من قبيل الحكم الواقعي والظاهري، بل من قبيل الحكمين الواقعيين، أحدهما واقعي أوّلي والآخر تأويلي.

وكذا ما يشير إليه القرآن الكريم من مراتب الهداية، كقوله تعالي: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» «2»

، وقوله تعالي: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًي» «3»

، وقوله تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «4»

، وقوله تعالي: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي» «5»

، وقوله تعالي: «نُورُهُمْ يَسْعَي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا» «6»

، فتقرّر هذه الآيات أن الهداية إلي الحقّ ذات مراتب مختلفة، ممّا يقتضي أنّ للحقّ مراتب ومدارج وأبدال علي الخيار لهم عليهم السلام، وقد أشاروا إلي ذلك في قوله تعالي: «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» «7»

، فتقرّر الآية أنّ العطايا اللدنية الإلهية يخيّر فيها المعصوم بين البذل لكلّ مرتبة من تلك المراتب وبين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 246

الإمساك، ويشير إلي ذلك

جملة من الروايات سيتمّ استعراضها لاحقاً «1».

القسم الخامس: صلاحية بيان المعارف والعلوم المختلفة، فقد قال تعالي:

«لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2»

، وقوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «3»

، وقوله تعالي: «لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» «4»

، وغيرها من الآيات الدالّة علي أنّ بيان القرآن هي من مسؤوليات الشرع، ومن الواضح أنّ القرآن مصدر خالد وهداية للبشرية إلي يوم القيامة، وبالتالي فإنّ الحوادث تستجدّ وتتشابه، فيحتاج لهداية القرآن وحكمه الصائب العدل في تلك الحوادث المستجدّة في كلّ ما ينتاب البشرية. ومن الواضح أنّ استخراج ذلك من القرآن وتبيانه بعيداً عن الخطأ والجهالة والزلل والظنّ هو السبب في عدم تفويض اللَّه لتلك المسؤولية إلي المسلمين، وجعلها مسؤولية خاصّة لذاته المقدّسة، أي بتوسّط رسوله صلي الله عليه و آله، وبعد الرسول لابدَّ من قيام أشخاص بتلك المهمّة يحذون حذوه صلي الله عليه و آله إلي يوم القيامة.

وبعبارة أُخري: إنّ جعل اللَّه تعالي بيان القرآن وظيفة خاصّة به تعالي وبرسوله صلي الله عليه و آله يحمل في طياته أنّ الإحاطة بتمام معاني القرآن الكريم وحقائقه التي بها تحصل هداية الأجيال البشرية جيلًا بعد جيل- لا سبيل لأحد إليها، بل هي خاصّة به تعالي وبمن يطلعه من أصفياء خلقه، ولا محال أنّ ذلك يستلزم وجود من يخلف رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في هذا الدور التشريعي..

وهذه الإحاطة التامّة اللدنية بكافّة العلوم كذلك؛ فإن الاحاطة بكافّة مسائل علم الرياضيات مثلًا، أو الطبيعيات كالفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء وغيرها، لا يتسنّي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 247

ولا يتأتّي لروّاد العلوم، بل كمية المجهولات التي لم يهتدوا إليها ويقرّون

بعجزهم عن معرفتها- هي أكثر بكثير من المسائل المعلومة، وهذا دليل علي ضرورة وجود من يحيط بهذا العلم بإحاطة لدنية تامّة، فضلًا عن القرآن الكريم الجامع لكلّ العلوم.

القسم السادس: ولايتهم في تأديب وتزكية وتعليم الخلق ومطلق السياسات التربوية، وقد يوازي هذا القسم التشريعات في ظلّ الحكم السياسي، سواء علي نطاق الأُمور العامّة أو علي نطاق الأحوال الشخصية، وسواء كانت في جانب الأُمور التنفيذية أو في الجنائيات والعقوبات، وغيرها من أمور التدبير العام، قال تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «1»

، وقال تعالي: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «2».

ولا يخفي أنّ هذه الآيات قد تعرّضت إلي عدّة أقسام من مهام الرسول صلي الله عليه و آله، ورتبه ومواقعه البنيوية الأصلية في الدين، حيث إنّ قوله تعالي: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ» إشارة إلي القسم الأوّل وهو النطق والإدلاء بالتنزيل بالقرآن، وقوله تعالي:

«يُزَكِّيهِمْ» بيان لهذا القسم السادس وللصلاحية المفوّضة للحكم السياسي وتدبير نظام المجتمع، وقوله تعالي: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ» بيان لصلاحية القسم الثالث، وهو بيان التأويل والبطون، وقوله تعالي: «الْحِكْمَةَ» بيان للقسم الثاني، كما يشمل القسم السادس.

وقال تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 248

وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1»

، وهي تدلّ علي أنّ المصدر والمفزع في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب علي المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم في

النظام الاجتماعي هو الرجوع والردّ للبتّ في شأنه إلي الرسول صلي الله عليه و آله وإلي أولي الأمر؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج، العلم بما هو الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر، لا الظنّ بالحقّ؛ لكون التعبير في الآية (لَعَلِمَه) لا (ظنّه)، ولذلك حصر نجاة الأُمّة عن اتّباع الشيطان، بردّ الأُمور إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر، ممّا يدلّ علي أنّ الرجوع إلي الرسول صلي الله عليه و آله وإلي أُولي الأمر عاصم للأُمّة عن اتّباع الشيطان.

فالآية دالّة علي أنّ تدبير الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما ذهب إليه العامّة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بإقدار من اللَّه عزّ وجلّ، فهذا الاستنباط هو استخراج صراح الحقّ، وليس إعمال الموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين الآلية في تدبير الأُمور العامّة من قبل الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر. نعم، قد يوهم إسناد الخطأ إلي الرسول وأُولي الأمر من ناحيتين:

الأُولي: الجسم البشري في الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر عليهم السلام، هذا الكمّ والحشد البشري غير معصوم، وقد يرتكبون الأخطاء والمعاصي، فينسب بعضهم ذلك إلي الرسول وأُولي الأمر. لكن هذا الإسناد ليس في الحقيقة متّصلًا بالرسول صلي الله عليه و آله، بل يسند ويُنسب إلي أعضاء حكومته.

نظير ما ارتكبه خالد بن الوليد يوم فتح مكّة حيث غدر ببني الأجلح، فتبرّأ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 249

النبيّ صلي الله عليه و آله من فعله بقوله صلي الله عليه و آله: «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد»، فقد كان معيّناً من قبل النبيّ صلي الله

عليه و آله علي إحدي الفرق العسكرية، ثمّ انتدب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام ليسترضيهم ويعطي الدية عن من قتل منهم. وكذا ما ارتكبه أُسامة بن زيد من قتل من أظهر الإسلام اشتباهاً منه في أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة عندما كان يقود سرية.

الثانية: إنّ الميزان الظاهري الشرعي في الموضوعات الخارجية، لا في استكشافه ومعرفته، وقد خلط العامّة بين الميزان الظاهري في الموضوعات، وعمّموا ذلك لمعرفة الأحكام في حقّ النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، وهو من الخلط بين المقامين، مع أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله في مقام العمل والتطبيق والتنفيذ ليس غالب، أدواته بموازين ظاهرية في الموضوعات، وهذا الذي وظّف اللَّه تعالي نبيّه وولاة الأمر عليهم السلام بالعمل به، هو من جملة الموازين الموظّفة شرعاً، فبعضها موازين ظاهرية بضميمة الموازين الواقعية.

وحيث كان بعضها ظاهرياً فالميزان قد يخطي وقد يصيب، نظير البيّنة والحلف في القضاء، كما في قوله صلي الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والإيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيما رجلٍ قطعت له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعةً من النار» «1».

فتحصّل: إنّ تدبيره صلي الله عليه و آله وأمره في الحكم السياسي بمقتضي مفاد الآية الشريفة هو العصمة عن الزلل والخطأ، وإنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلي الله عليه و آله، فإنّ ذلك عند التدبّر راجع إلي أعضاء جهازه الحكومي من الولاة والأُمراء وغيرهم، أو إلي كون الميزان الشرعي في الموضوعات الموظّف العمل به في التدبير ظاهرياً،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 250

فقد لا يصيب الواقع في بعض موارده.

ثمّ إنّ هذه الآية دالّة

علي وجود ثلّة في هذه الأُمّة هم ولاة الأمر، مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلي الله عليه و آله، وأنّ لهم عصمة في التدبير، والعصمة في التدبير متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ الآية خطاب إلي كلّ المكلّفين إلي يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما ينوبهم ويعتريهم في أُمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها بإيكاله وردّه إلي أُولي الأمر العالمين بحكمه؛ لقدرتهم علي استنباط واستخراج الحقّ والرأي الصائب فيه.

ومن البيّن أنّ هذا الاستنباط الموصل إلي العلم بحقائق الأُمور مستقاة من الكتاب الكريم، لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط، فإنّ ذلك لا يوجب بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بل لابدّ بالإضافة إلي ذلك معرفة ما في الكتاب من استطار كلّ شي ء فيه من كلّ غائبة في الأرض أو في السماء أو رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون، الذي هو الكتاب المبين، والذي لا يمسّه إلّا المطهرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين.

القسم السابع: صلاحيتهم في بيان النسخ؛ وذلك بأن يُودع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الناسخ لديهم إلي حين أوانه فيبرزوه ناسخاً. وقد أثبت هذا القسم جملة من أعلام الإمامية كما سيأتي في الأبواب تفصيل أقوالهم.

وحقيقة هذا البيان للنسخ، لا يخفي أنّه ليس إخبار محض كما هو الحال في القسم الأوّل الذي مضي بيانه مفصّلًا، وأنّه بمثابة الناطق الرسمي القانوني عن السماء، أي في أصل أداء الأحكام عن اللَّه، حيث قد مرّ أنّه لا يخلو هذا البيان عن ماهية الإنشاء، فكيف بإبراز النسخ الذي هو إنهاء لفعلية تشريع ثابت وتفعيل وتشريع جديد، فهو أوغل في إنشائية التشريع.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص:

251

ويندرج في هذا القسم نسخ القرآن بالسنّة القطعية النبويّة، وقد قال بذلك أغلب الخاصّة والعامّة إلّامن شذَّ، ومن أمثلته «1» تبليغه عليه السلام سورة البراءة، حيث إنّ مفاد سورة البراءة قد نسخ بعض الأحكام السياسية مع المشركين المذكورة في السور السابقة، مع أنّ المبلّغ للنسوخ إلي البشرية هو أمير المؤمنين عليه السلام، وسيأتي بيانه لاحقاً.

القسم الثامن: صلاحية تفويض القضاء والحكم فيه، وقد قال تعالي: «فَلَاوَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيًما» «2»

، وقوله تعالي: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ» «3»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» «4»

، وقوله تعالي: «مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَامُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» «5».

وقد استظهر من قوله تعالي: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» تخيّره صلي الله عليه و آله في الحكم بحسب الموازين الشرعية بين الظاهرية والواقعية، بحسب واقع الأمور التي يريها اللَّه له صلي الله عليه و آله، كما قد استفيد من مجموع هذه الآيات وغيرها، وتخيّره صلي الله عليه و آله في الحكم بين مراتب الحكم الواقعي. قال الشيخ المفيد رحمه الله: (للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، ومتي عرف من المشهود عليه ضدّ ما تضمّنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه وحكم عليه بما أعلمه اللَّه) «6».

القسم التاسع: من الصلاحيات المفوّضة ولاية الإمامة السياسية والخلافة،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 252

وإقامة الحكم السياسي والدولة، وإدارة النظام الاجتماعي والسياسي، وقد كتب في هذا المضمار علماء الإمامية أسفاراً جمّة، وأشبعوا البحث درايةً وبياناً وتفصيلًا» «1».

القسم العاشر: من الصلاحيات المفوّضة لهم: كونهم

الفيصل والمصدر العلمي الشرعي المهيمن عند الاختلاف في معاني ومؤدّيات الأدلّة والأحكام الشرعية، فضلًا عن المتشابه في المعارف والاعتقادات. سواء كان الاختلاف أو التشابه في ظواهر أدلّة القرآن والسنّة النبويّة هو بنحو التعارض أو الإجمال والإيهام، أو تزاحم المقتضيات وغيرها من أقسام الاختلاف، فلزوم الرجوع إليهم عليهم السلام كما هو في الابتداء، كما مرّ في الأقسام السابقة، كذلك في المآل عند وقوع الاختلاف في جميع أقسامه، فهم عليهم السلام بلحاظ هذا القسم بمثابة المحكمة الدستورية لكلّ الدين، لا لخصوص نظام الدولة الذي هو شعبة من فروع الدين، فهم الفيصل عند الاختلاف في تفسير الدين والشريعة وقراءة النصوص، ويشير إلي هذا القسم قوله تعالي: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «2»

، و «الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ» بمعني يستخرجون حقيقة الواقع كما هو معني الاستنباط لغةً، لا المعني المتداول عند الفقهاء بمعني الاستظهار الظنّي، هم الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر من قرباه أهل آية التطهير والمباهلة، كما مرّ بيانه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 253

صلاحية التشريع مبدأ وماهية ومنتهي … ص: 253

تقديم:

إنّ البحث في صلاحية التشريع أو الولاية التشريعية للرسول صلي الله عليه و آله والأئمّة من بعده بعد وضوح أنّ الشارع الأوّل والمهيمن هو الباري تعالي، إلّاأنّه وقع الكلام في ثبوت هذه الصلاحية والمقام له صلي الله عليه و آله ولهم عليهم السلام في مدار محدود تابع لتشريع اللَّه تعالي، وفي ظلّ التشريعات الإلهية، كما قد وقع الكلام في حقيقة وساطته صلي الله عليه و آله بين الباري والناس، أي في حقيقة التبليغ عن اللَّه، وكذلك في حقيقة وساطة الأئمّة عليهم السلام عن اللَّه ورسوله، أي في حقيقة

تبليغ الأئمّة عن الرسول صلي الله عليه و آله، وفي ماهية الطرق والمنابع التي يأخذ منها الرسول والأئمّة صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

فلابدّ من إقامة البحث في ذلك ليتبين لنا حقيقة صلاحية جعل القوانين وسنّ الأحكام وحقيقة التبليغ، وهل هي علي وزان دور سائر الناس في عملية التبليغ والإبلاغ، كما هو الحال في الرواة الذين يكونون وسائط في مجرّد نقل محض اللفظ من دون أن يكون لهم بالضرورة دراية تامّة محيطة بتمام معاني التشريعات وحقائقه؟ وهذه النظرية والنظرة له صلي الله عليه و آله ولهم عليهم السلام يترتّب عليها آثار خطيرة:

منها: عدم اشتراط العصمة في الرسول والإمام لأداء مهمّة التبليغ، بل يكفي الصدق بدرجة العدالة في ذلك، حيث إنّ هذه النظرة مسخ لماهية التبليغ النبويّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 254

والتبليغ الولوي «1»، وأنّ درجته لا تتطلّب أكثر من ذلك.

ومنها: تساوي النبيّ صلي الله عليه و آله والإمام عليه السلام مع جملة من الأفراد الآخرين الذين يعرفون جملة من ما أُثر عن الرسول صلي الله عليه و آله وعنهم عليهم السلام.

بل قد يكون الأفراد الآخرون في بعض الأحيان والعياذ باللَّه تعالي- أفقه منهم صلوات اللَّه عليهم؛ إذ علي هذه النظرية من حقيقة تبليغهم تجري قاعدة ربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه (والعياذ باللَّه)، وهذه النظرة والنظرية هي التي كانت لدي بعض الصحابة «2»، ولأجل ذلك كان يُكثر من المشاققة والاعتراض علي النبيّ صلي الله عليه و آله، يعارضه في القول والفعل، حتّي نزلت الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «3».

ومنها: إطلاق الرواة عليهم، وقد ارتكبه جملة في الأعصار المتأخّرة، وبالتالي فعلمهم صلوات اللَّه عليهم منحصر

في التنزيل دون التأويل، وبالمحكم دون المتشابه، فقال بعضهم حول صلاحية التشريع وحول ما دلّ من الآيات والروايات علي كون النبيّ صلي الله عليه و آله والإمام أولي بالمؤمنين من أنفسهم (وأما ما كان من الأحكام المتعلّقة بالأشخاص بسبب خاصّ من زواج وقرابة ونحوهما، فلا ريب في عدم عموم الولاية له، وأن يكون أولي بالإرث من القريب وأولي بالأزواج من أزواجهم، وآية: «النبيّ أولي بالمؤمنين» إنّما يدلّ علي أولويته فيما لهم أي الأشخاص- الاختيار، لا فيما لهم من الأحكام تعبّداً وبلا اختيار).

وقال آخر: (أي: فوّض إليهم أن يحلّلوا ما شاؤوا ويحرّموا أيضاً ما شاؤوا،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 255

وهذا أيضاً ضروري البطلان؛ فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله ليس شارعاً للأحكام، بل مبين وناقل له، وليس شأنه في المقام إلّاشأن ناقل الفتوي بالنسبة للمقلّدين).

وقال بعضهم: إنّ وصول المعصوم إلي الحكم الشرعي يتمّ في جملة من الأحيان بواسطة مراجعة المعصوم إلي الكتب التي ورثها عن رسول اللَّه، والفحص في أبوابها، وملاحظة المطلق والمقيد والعامّ والخاصّ والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين، تماماً كما يمارس ذلك الفقيه، غاية الأمر الفرق بينهما أنّ المعصوم مسدّد عن الخطاء.

وأمّا قول العامّة باجتهاد الرسول والعياذ باللَّه- فهو إفك جاء به عصبتهم الأوائل، لتبرير معارضة وعصيان الرسول، وتلقّاه أواخرهم بألسنتهم وحسبوه هيناً وهو عند اللَّه بهتان عظيم.

وقد تفشّت هذه المقولة واتّبعت هذه الخطوات في بعض الأقلام المنتحلة..

فأطلقوا التعبير باجتهاد أئمّة أهل البيت، وأنّ هذا فهمهم، وأنّهم رواة عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأنّ علمهم قائم بالكتب المدوّنة المنفصلة عن أرواحهم، إلي غير ذلك من الأقاويل التي يطلقونها.

وكلّ ذلك ناشئ عن قصور وتقصير في معرفة الرسول صلي الله عليه و آله والأئمّة

عليهم السلام، وموقعية وساطتهم في الدين الحنيف والشريعة الغرّاء، وعن الجهل بمصادر علومهم وضروب العلم لديهم وأبوابها، وحقيقة مراحل التشريع والشريعة، وأنّ الإحاطة الواقعية بتفاصيل الأُمور وحقائقها لا يتمّ إلّابالعلم الجمعي اللدني بأُمّهات أُصول الشريعة، فمن ثمّ استدعي البحث في دورهم ومقامهم في منابع علومهم عليهم السلام التي هي مصادر الشريعة.

قال العلّامة الطباطبائي: (إنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقّيهم المعارف الإلهية ومصدريتهم للأُمور الخارقة بنفوسهم العادية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 256

ثمّ ذكر خلطهم من إرادة النبيّ إبراهيم عليه السلام عملية الإحياء بين جانبها الملكوتي وجانبها الحسّي الظاهري … إلي أن قال.

لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من أمر الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ) «1».

وقال في موضع آخر: (ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين، أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم عليه السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسي عليه السلام لميت عند إحيائه:

قم بإذن اللَّه، وجريان الريح بأمر سليمان، وغيرها ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة، إنّما هو لأثر وضعه اللَّه تعالي في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدلّ عليه ألفاظهم، نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها، وقد خفي عليهم أنّ ذلك أنّما هو عن اتّصال باطني بقوّة إلهية غير مغلوبة، وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة) «2».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 257

منابع علومهم عليهم السلام هي مصادر ومتون الشريعة … ص: 257

أقسام الوحي: … ص: 257

«مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي»

قال تعالي: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي» «1».

والبحث في هذه الآيات هو أحد أُمّهات البحوث في معرفة النبوّة، وقد استدلّ بها فريق المثبتين لصلاحيته صلي الله عليه و آله لدور التشريع التابع

لتشريع اللَّه، كما استدلّ بها النافون لهذا الدور والمقام.

وقد استدلّ بها كثير من العامّة لحصر عصمة النبوّة في التبليغ دون بقية الأفعال والشؤون، وهذه الدعوي منهم مبنية علي التفكيك بين شخصية النبوّة فيه صلي الله عليه و آله، وشخصية شؤونه الأُخري، وعلي تعدّد حيثيات شخصيته صلي الله عليه و آله، ومن ثمّ تعدّد حيثيات شؤونه، وبالتالي انقسام أقواله وأفعاله إلي ما يرتبط بالشريعة، وإلي ما لا صلة له بالشريعة، وهذه النظرة إلي شخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله قد أصبحت عندهم من المسلّمات «2»، وهي بعيدة تمام البعد عن حقيقة شخصيّة النبيّ؛ فإنّ حقيقة تكوين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 258

وتركيب شخصيّته ليست بنحوٍ يتصوّر انفكاك فطرته الغريزية وفطرته الإنسانية والعقلانية عن فطرته الوحيانية، وبالتالي هيمنة الفطرة الوحيانية علي تمام درجات فطره الأُخري، وذوبانها فيها، وتبعيتها وانقيادها لها، وانصباغها وتلوّنها بها، فلا مجال للتفكيك والتفكّك، ولا للانفصال والفصل، بل كلّ حركاته وسكناته خوضه وامساكه قوله وفعله حلّه وترحاله مسيره وخطواته، كلّ ذلك متن وحياني ونموذج أمثل ركّبته يد القدرة الإلهية؛ ليحتذي به النبيّون والمرسلون والأوصياء والمصطفون، فضلًا عن سائر البشرية.

فالتفكيك في شخصيّته بين الشؤون الشرعية وأُمور الحياة الاعتيادية نظرية خاطئة متفشّية في بحوث المعرفة والعلوم الدينية، ولأجل الوقوف علي مفاد الآيات الكريمة السابقة لابدّ من تحرّي المراد من كلّ من العناوين الواردة فيها، من الوحي والنطق والهوي والضلال والغواية.

أمّا العنوان الأوّل: فالوحي، الذي هو مصدر نطق النبيّ صلي الله عليه و آله، كما أنّه علّة بثلاث قضايا الأخبار في الآيات، حيث قد سبق الأخبار عن حصر مصدر النبيّ ومعتمده علي الوحي: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي»، قد سبقه ثلاثة إخبارات: الأوّل: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ»، الثاني: «وَمَا

غَوَي»، الثالث: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي»، فجاء الإخبار الرابع: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» في مقابل الإخبارات الثلاثة، أي في مقابل المنفي في الإخبارات الثلاثة، فهو بمنزلة العلة للنفي فيها، فليس هو تعليل للنفي في الإخبار الثالث فقط كما شاع في كلمات جملة من المفسّرين وأبحاث العلوم الإسلامية، بل هو تعليل للنفي في كلّها.

وعلي ذلك، فالضمير في الإخبار الرابع «إِنْ هُوَ إِلَّا …» لا يعود إلي النطق، بل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 259

يعود إلي شخص النبيّ صلي الله عليه و آله وهويته والإخبار عن هويته وشخصيّته بأنّها وحيٌ يوحي، وهو من قبيل زيدٌ عدلٌ، أي لبيان استغراق زيد في العدالة في أفعاله وأقواله ومواقفه وإحجامه وإقدامه، فكذلك الحال في الإخبار عن هويته صلي الله عليه و آله بأنّه وحيٌ يوحي للدلالة علي أنّ شخصيّته صلي الله عليه و آله في تمام أبعادها هي بتركيب وتصوير وهيئة وحيانية.

بل إنّ في الإخبار الرابع عناية فائقة في تأكيد ذلك بأداة الحصر، أي بحصر هويته في الوحي، أي ليس هويته بشي ء من الأشياء إلّاوحيٌ يوحي. وهذا مفاد ما مرّ من أنّ الفطرة والغريزة فيه صلي الله عليه و آله، والفطرة الإنسانية والفطرة العقلانية لا استقلال لها مقابل الفطرة الوحيانية التي له صلي الله عليه و آله، فكلّ تلك الفطر قد انقادت وتبعت الفطرة الوحيانية.

بل في الآية تأكيد آخر، وهو أنّه لم يُجعل الخبر عن هويته صلي الله عليه و آله الوحي بمفرده، بل جُعل مؤكّداً بنفس العنوان بصيغة الفعل المضارع المستمر؛ للدلالة علي التأكيد والتأبيد والاستمرار والشمولية لكلّ شؤونه صلي الله عليه و آله.

وقد أُكّد هذا المضمون في الآية بالقسم الإلهي: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي»، ولا يخفي أنّ القسم الإلهي وقع

علي مجموع الإخبارات الأربعة وما بعدها، وهو ممّا يؤكّد أنّ الضمير في «إِنْ هُوَ إِلَّا» غير راجع لخصوص النطق، بل هو إلي حقيقة وهوية وشخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله، وممّا يؤكّد هذا المفاد أيضاً الإخبار الخامس في الآيات، وهو: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي»، فإنّ الضمير في (علّمه) راجع إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، متّحد السياق مع ضمير (هو)، مع أنّ التعليم شامل لكلّ شؤون النبيّ لا لخصوص القرآن.

وإلي هذا التقرير من مفاد الآية يشير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام «1»: «ولقد قرن اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 260

به صلّي اللَّه عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يَسلُكُ به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهارهُ».

وفي صحيح الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «إنّ اللَّه عزّوجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1»

، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، وإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لايزلّ ولايخطي ء في شي ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب اللَّه» «2».

وما في ذيل الرواية قد يشير إليه الإخبار الخامس في الآيات: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي»، فإذا تبين أنّ مرجع الضمير ليس هو النطق والكلام النبويّ بل هو كلّ سلوكيات النبيّ صلي الله عليه و آله وسيرته وهديه وبسطه وقبضه، ظهر أنّ الوحي في الآيات الكريمة السابقة ليس هو خصوص الوحي التشريعي، بل يعمّ الوحي التسديدي، والتأييدي والإلهامي والتوفيقي، وغيرها.

ولكلّ من هذه الأقسام معنيً وسنخ ونمط يختلف عن الآخر، أو وضحت في محالها.

وقد أُشير إلي

الوحي التسديدي وغيره في مواطن عديدة من القرآن الكريم، نحو قوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» «3».

حيث إنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي التشريعي الذي هو عبارة عن الأمر والنهي الإنشائي؛ لأنّ متعلّق الوحي قد جُعل نفس فعل الخيرات، أي أنّها كانت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 261

تصدر عنهم بوحي مقارن بصدور الفعل، كما أشار إلي ذلك العلّامة الطباطبائي في الميزان، فالآية تشير إلي أنّ الموصوفين بجعلهم أئمّة من قبله تعالي مؤيدون بحقيقة أمرية من عالم الأمر، وهو روح القدس الطاهرة، ومسدّدون بقوّة ربانية ينبعث منهم بتوسّطها فعل الخيرات.

والقرينة الأُخري علي إرادة الوحي التسديدي في الآية المزبورة: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، أنّه لو أُريد الوحي التشريعي لفُصل بين كلمة الوحي وكلمة فعل الخيرات بأنّ ونحوها، كما هو الشائع في الاستعمال القرآني واللغوي.

وممّا يعضد استعمال الوحي في الأعمّ من الوحي التشريعي (الأنبائي) والتسديدي قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ» «1»

، فإنّ الإيحاء بالروح الأمري (أي من عالم الأمر) المراد به تسديده صلي الله عليه و آله بذلك الروح لا صرف الأنباء، بقرينة ذكر كلّ من الكتاب والإيمان، فإنّ الإيمان فعل تسديدي نظير: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، مضافاً إلي أنّه جعل متعلّق الوحي في قوله تعالي: «أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» هو نفس الروح، ممّا يدلّل علي إرساله ليلتحم بروح النبيّ صلي الله عليه و آله.

فيتحصّل في مفاد الآية تعليل هدي النبيّ صلي الله عليه و آله ورشاده صلي الله عليه و آله ونور نطقه بأنّ الباري اصطنعه بيد القدرة الربانية، كما في قوله تعالي: «وَلِتُصْنَعَ عَلَي عَيْنِي»

«2»

، وقوله تعالي في شأن النبيّ موسي: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» «3»

، بنحوٍ يكون جميع شؤونه وحيانيةً. ومن ثمّ فرض الباري علي البشرية لزوم التأسّي برسوله في جميع شؤونه، حيث قال: «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «4»

، وأطلق تعالي الأمر بالأخذ بجميع ما يأتي به النبيّ صلي الله عليه و آله والانتهاء عمّا ينهي عنه، فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 262

وما اشتهر في كلمات المفسّرين وجملة من المتكلّمين وعلماء الأُصول، وكثير من بحوث المعرفة الدينية، من تقييد هذه الآية وآية «مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي» وآية (التأسّي) بالشرعيات والأحكام دون العاديات وأُمور المعاش، فقال بعضهم:

(ويحتجّ بهذه الآية من لا يري الاجتهاد للأنبياء، ويُجاب: بأنّ اللَّه تعالي إذ سوّغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كلّه وحياً لا نطق عن الهوي) «1»، فمبنيّ علي النظرية التي سبق تخطئتها من التفكيك في شخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله بين الفطرة الغريزية والنفسانية والفطرة العقلانية والفطرة الوحيانية. وقد سبق عدم تعقّل خروج درجات النفس النبويّة عن هيمنة الفطرة الوحيانية، ومن ثمّ وصفه الباري بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «2»

، وقال تعالي: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» «3».

وقال تعالي: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «4»

، ووصفه تعالي بالرؤوف الرحيم، مع أنّها من أسمائه الحسني، فقال تعالي: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» «5».

ووصفه تعالي بأنّه رحمة للعالمين، فقال تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «6»

، وبيّن تعالي استغراق عنايته بنبيّه في كلّ أحواله ومقاماته بقوله تعالي: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا» «7».

كما أنّ نظرية التفكيك مبنية علي التفكيك في سياق الآيات في سورة النجم،

مع أنّه قد اتّضحت المقابلة في الآيات بين الضلال والغي والهوي من جهة، والتسديد الوحياني من جهة أُخري.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 263

ومن ثمّ تري مفسّري العامّة حيث لا يقولون بالعصمة المطلقة للأنبياء يرتكبون التمحّل في الآيات الأُولي في سورة النجم بنحوٍ ممجوج، فيقيدون متعلّق الضلال بموارد خاصّة، مع أنّ الآية تنفي مطلق الضلال عن النبيّ صلي الله عليه و آله في كلّ شؤونه، وتثبت الهدي والهداية في كلّ مقاماته. وكذلك تمحّلوا في نفي الغواية عنه صلي الله عليه و آله بتقييدها بموارد خاصّة أيضاً، مع أنّ الآية تنفي الغواية في كلّ سلوكه وتثبت الرشاد في كلّ سيره ومسيرته. ولم يكتفوا بذلك، بل تمحّلوا التقييد في الآية الثالثة، فقالوا: إنّه لا ينطق عن الهوي في تبليغه للقرآن خاصّة.

وبعضهم قال في تبليغ الشريعة والشرائع خاصّة دون تدبيره في الأُمور العامّة فضلًا عن أُموره الخاصّة، مع أنّ الآية تنفي مطلق النطق عن الهوي، ولم يُقيد متعلّقها بشي ء، كما أنّهم ارتكبوا التمحّل مرّةً رابعة في مرجع الضمير (إن هو إلّا وحي)، فجعلوه القرآن خاصّة تارة، أو قوله في التبليغ خاصّة وكذلك جعلوا هذه الآية الرابعة في مقابل الثانية فقط، مع أنّه قد مرّ بوضوح أنّ الضمير راجع إلي شخصه صلي الله عليه و آله، والمقابلة هي مع الآيات الثلاث السابقة.

ومن ثمّ يتبيّن وجهان آخران في الآيات، دالّان علي كون مفادها هو تقرير العصمة المطلقة للنبيّ صلي الله عليه و آله:

الأوّل: إنّ في الآيات حصر عقلي، حيث تعرّضت لنفي الضلال والغواية والهوي، وهي مناشئ الخطأ والزلل والزيغ في فعل الإنسان وشؤونه. والضلال:

النقص في الجانب العلمي، والغواية: النقص في صفات النفس العملية الموجبة للمعصية، والهوي: فلتان النفس عن السيطرة عليها.

وبعبارة أُخري:

الضلال هو القصور العلمي والزلل بسبب ذلك، وأمّا الغواية فهو الزيغ عن عمدٍ لصفة عملية رذيلية للشخص، كما في إبليس اللعين للاستكبار والعناد واللجاج والعصبية والحميّة، وفي قبالهما الزيغ بسبب ميل الهوي.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 264

وبهذا التقريب يتبين أنّ الآية الرابعة «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ..» هي في مقابل الآيات الثلاثة السابقة، أي أنّ علم النبيّ صلي الله عليه و آله الشامل لكلّ الموارد منبعه الوحي التسديدي والتأييدي والإلهامي والتوفيقي الوفاقي، وغيرها من أقسام الوحي اللدني، كما أنّ فعل النبيّ صلي الله عليه و آله وسلوكه وإراداته النفسانية منبعها الوحي، وهو ذلك الوحي التأييدي والتسديدي وغيرهما، وكذلك نطقه صلي الله عليه و آله سواء فيما يخبر عنه أو يأمر به وينهي عنه، علي صعيد التشريع أو التدبير في الأُمور الكلّية أو الجزئية، فكلّ نطقه وأقواله صلي الله عليه و آله نابعة من ذلك الوحي الذي أُويّد وسُدّد به ويشير إلي محصّل ذلك قوله تعالي:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَي اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» «1».

فلم يجعل أثر الروح الأمري درايته صلي الله عليه و آله للكتاب فقط، بل كمال الإيمان ونور الهداية، ممّا يؤكّد كون هذا الروح الذي أويّد به رسول اللَّه ليس للأنباء والدراية فقط، بل للتسديد في العمل والسلوك أيضاً، ومن ثمّ فرّع عليه تعالي «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، كما قال في حقّ عيسي: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «2»

، وقال تعالي: «وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «3».

فكيف بسيد الرسل وقد تقدم؟ ويأتي أيضاً اختلاف

درجات التأييد الإلهي بروح القدس للأنبياء بحسب اختلاف درجاتهم، ويشير إلي هذا المعني في الآية قول الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة أبي بصير عندما سأله عن معني الآية؟ قال عليه السلام:

«خلق من خلق اللَّه عزّوجلّ أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يخبره

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 265

ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده» «1».

وفي رواية أُخري، قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «2»» «3».

وفي رواية سعد الاسكاف قال: «أتي رجل أمير المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: جبرئيل من الملائكة، والروح غير جبرئيل. فكرّر ذلك علي الرجل، فقال له: لقد قلت عظيماً من القول، ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل! فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول اللَّه تعالي لنبيّه عليه السلام: «أَتَي أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «4»

، والروح غير الملائكة صلوات اللَّه عليهم» «5».

الثانية: إنّ الآيات المتقدّمة من سورة النجم لم تكتفِ بنفي الضلال والغواية عن النبيّ صلي الله عليه و آله، بل أثبتت وحصرت هويته بالدرجة الوحيانية، وهذا يقتضي العصمة اللدنية من لدن الوحي التأييدي والتسديدي.

وبيان ذلك: إنّ بين نفي الضلالة والغواية والهوي وبين الذات الوحيانية هناك درجات أُخري،

كالهدي والرشد والنطق العقلي والعقلاني أو العرفي الأدبي ونحو ذلك من الدرجات، فلأجل ذلك لم يكتفِ الباري تعالي بنفي الأُمور الثلاثة، بل أثبت منشأ سلوك وسيرة ونطق النبيّ صلي الله عليه و آله أي مجموع أفعاله- هي من الوحي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 266

التأييدي اللدني، بل حصرها في ذلك.

وبعبارة أُخري: عندما يقال ما ينطق عن الهوي فقد يقال ينطق عن العقل أو السنن العرفية المحمودة، وكذا عندما يقال: ما ضلّ فقد يقال هدي عند أحلام البشر، وكذا عندما يقال: ما غوي فقد يقال رشد في تحسين أهل المحامد، بخلاف ما إذا ضمّ إليه منشأية الوحي التأييدي، بل حصر المنشأ في ذلك.

فتحصّل: إنّ الآية في بيان العصمة المطلقة في كلّ أفعاله وأقواله، وأنّها متن الوحي والشريعة، وغاية الأمر الوحي أعمّ من الوحي الإنبائي، أو الوحي التأييدي والتسديدي وإلالهامي والتوفيقي وإلايتائي واللذاني والبسط في العلم والإلقائي، وغيرها من العناوين الواردة في السور والآيات القرآنية الشارحة لأنواع الوحي.

ومن ثمّ نقف علي حقيقة هامّة.

حقيقة التشريع النبويّ: … ص: 266

وهي: إنّ التشريع منه ما يكون بفرض من اللَّه وإنباء لنبيّه صلي الله عليه و آله بتوسّط الوحي الإنبائي، ومنه ما يكون من فعل النبيّ وسيرته وقوله وسننه، وهو قسم آخر من الوحي ليس من قبيل الوحي والإنباء وإرسال الملك، بل هو من الوحي المؤيّد المسدّد به النبيّ بتوسّط روح القدس والروح الأمري، وهو الذي أشار إليه أمير المؤمنين في معني مجموع الآيات المتقدّمة: أن قد قرن بنبيّه صلي الله عليه و آله أعظم ملائكته من لدن أن كان فطيماً، فلمّا أكمل له الأدب قال له: «إِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ»، ثمّ فوّض إليه أمر دينه فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

، «لَقَدْ كَانَ

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» «2»

. أي أنّ كلّ حركات وسكنات وأفعال وسيرة وهدي الرسول صلي الله عليه و آله هو

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 267

علي وفق القالب للأدب الإلهي النموذج الذي صاغته اليد الربانية، فيمتنع أن يوجد في هذا القالب النموذجي أي تفاوت أو فطور، فارجع البصر ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير.

ثمّ إنّ من ذهب من علماء العامّة إلي اجتهاد النبيّ وعمله بالظنّ تشبّث بوجوه واهية من التمسّك بأحاديث مدسوسة بيّن عليها علائم الوضع من خلال قرائن لا تخفي علي البصير، مع أنّه نوع من التمسّك بالمتشابه الوهمي في مقابل المحكم القطعي.

ويجدر في نهاية هذه المقالة أن نشير إلي وهن بعض الأقاويل المتقدّمة:

منها: ما تقدّم من أنّ اجتهاد النبيّ والعياذ باللَّه إذا كان بأمر من الوحي فهو كلّه وحيٌ لا نطق عن الهوي.

ويُجاب: أوّلًا: فإنّه وفق هذه المقولة والنظرية تكون اجتهادات الفقهاء وحي يوحي.

ثانياً: إنّ عدم النطق عن الهوي بالاستناد إلي موازين الاجتهاد الظنّية لا يستلزم صدق الوحي علي الحكم الظنّي.

وثالثاً: إنّ لازم تسويغ الاجتهاد من النبيّ صلي الله عليه و آله هو جواز معارضته وعصيانه والاعتراض عليه لمن قطع علي خلاف الحكم الظنّي الذي يحكم به النبيّ صلي الله عليه و آله، كما اجترأ علي ذلك أبو بكر وعمر في صلح الحديبية، ويوم التخلّف عن جيش أُسامة، وغير ذلك من الموارد «1».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 268

بل إنّ مغزي القائلين باجتهاد النبيّ صلي الله عليه و آله وهدفهم هو فتح باب الاعتراض والردّ علي النبيّ، ونبذ طاعته وتبرير ما وقع من جمع من الصحابة من الاجتراء علي عصيان الرسول ومشاققته والردّ عليه.

ومنها: وصف النبيّ

أو وصف الأئمّة من عترته بأنّهم مجرّد نقلة الأحكام الإلهية.

فيُردّ عليه مضافاً إلي ما تقدّم:

أوّلًا: إنّ لازم ذلك احتمال أعلمية المنقول إليه من الناقل؛ إذ رواية العلم غير درايته ووعايته؛ فربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه، مع أنّ الباري تعالي قال:

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «1»

، وقال تعالي: «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» «2»

، وقال تعالي: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «3»

، وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «4»

. وغيرها من الآيات الدالّة علي أنّ بيان القرآن كلّه تنزيله وتأويله عمومه وخصوصه ناسخه ومنسوخه ظاهره وباطنه هو علي عهدة النبيّ، مع أنّ الكتاب والكتاب المبين يستطرّ فيه كلّ شي ء، وكلّ غائبة في السماء والأرض.

وكلمات اللَّه تعالي لا تنفذ ولو كان ما في الأرض من شجر أقلام والبحر مداداً ومن بعده سبعة أبحر، ما نفذت كلمات اللَّه تعالي في كتابه، فالنبيّ صلي الله عليه و آله الذي يكون علي عهده تبيان كلّ ذلك ولو بتوسّط تعليمه جملة ذلك لأهل بيته ليبينّوا علي مرّ العصور والدهور إلي يوم القيامة للأُمّة ما تحتاجه من الكتاب هل يعقل تطرّق

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 269

الظنّ والجهل إلي ساحته المطهّرة بالنور الإلهي؟

هذا مع أنّ روح القدس يتنزّل عليه ليلة القدر وكلّ ليلة كما سيأتي في الفصل السابع بالقضاء والقدر لكلّ شي ء، فكيف تخفي عليه صغيرة وكبيرة وذرّة إلي مجرّة؛ وكيف لا يكون علمه الوحياني لدني يؤيّده ويسدّده؟ وكيف لا يكون سيره وسيرته وكلّ

نطقه هداية ورشاد وحياني، وقد جعل اللَّه علي عهدته تزكية الأُمّة جمعاً؟ وكيف يعزب عنه باب من الحكمة وقد جعل الباري علي عهدته تعليم الكتاب كلّه والحكمة للبشرية أجمع؟

ونظير هذه المقامات قد أسندها الباري إلي عترته المطهّرة فقال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «2»

، وقال تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

، وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «4».

وقد روي العامّة، كابن حنبل في مسنده عن عبد اللَّه بن عمر، قال: «كنت أكتب كلّ شي ء عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شي ء تسمعه من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله بشر يتكلّم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي شي ء إلّا الحقّ» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 270

ورووا عنه وزعموا أنّه قال صلي الله عليه و آله: «ما أخبرتكم أنّه من عند اللَّه فهو الذي لا شكّ فيه» «1»

، وهذه الرواية متدافعة مع الرواية السابقة.

وعن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنّه قال: «لا أقول إلّاحقّاً. قال بعض أصحابه:

فإنّك تداعبنا يارسول اللَّه؟ قال: إنّي لا أقول إلّاحقاً» «2».

والملاحظ في رواية عبد اللَّه بن عمر تصريحه بأنّ الذين كانوا يتبنّون

عدم عصمة النبيّ المطلقة هم قريش دون الأنصار، ويُظهر دوافع قريش من ذلك، وأنّ سياستهم في تبني هذه النظرية هو لفتح باب الردّ علي النبيّ ومعارضته، وتقليب الأُمور في جانب التشريع والحكم، فيفتح الطريق أمام إحكام قبضتهم علي مجمل الأُمور.

وأمّا الرواية الثانية، فلا يخفي تدافعها مع الرواية الأُولي، ويد قريش في وضعها لائح بيّن؛ إذ هي سياستهم في تبنّي نظرية التفصيل في عصمة النبيّ صلي الله عليه و آله.

وأمّا الرواية الثالثة، فهي متطابقة مع الرواية الأُولي، ومتطابقة مع مفاد آيات سورة النجم التي مرّ أنّ ظاهرها هو وحيانية كلّ شخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله وهويته، وأنّ كلّ سلوكه وسيره وسيرته وكلّ نطقه وأقواله وجميع شؤونه حقّاً وحيانياً، إمّا بالوحي التأييدي التسديدي وغيرهما، أو الوحي الإنبائي.

إلي هنا تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث بإذن اللَّه تعالي وهو المستعان وله المنّة والفضل والحمد للَّه أوّلًا وآخرا.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.